للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]. وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنّه عبدٌ مربوب، وأنّ الله هو الخالق البارئ المصوِّر الإله الحقُّ، كما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: ١٤]، ولهذا قال لموسى على سبيل الإنكار لرسالته، والإظهار أنَّه ما ثَمَّ ربٌّ أرسله: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟ لأنَّهما قالا له: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فكأنه يقول لهما: ومَن ربُّ العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وبعثكما؟ فأجابه موسى قائلًا: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ يعني: ربُّ العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة، وما بينهما من المخلوقات المتجدّدة من السحاب، والرياح، والمطر والنبات، والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها، ولابدّ لها من موجدٍ ومُحْدِثٍ وخالقٍ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين ﴿قَالَ﴾ أي: فرعون لمن حوله من أُمرائه ومَرَازِبته (١) ووزرائه على سبيل التهكّم والتنقص لما قرَّره موسى : ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾ يعني كلامه هذا، قال موسى مخاطبًا له ولهم: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي: هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد والقرون السّالفة في الآباد، فإنّ كلّ أحدٍ يعلم أنّه لم يخلق نفسه، ولا أبوه ولا أمه، ولم يَحدُث من غير مُحدِث، وإنَّما أوجده وخلقه الله ربُّ العالمين.

وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣]، ومع هذا كلّه لم يستفق فرعون من رَقدته، ولا نزع عن ضلالته؛ بل استمرّ على طُغيانه، وعِناده، وكفرانه، ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، أي: هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة، المسيِّرُ للأفلاك الدائرة، خالق الظلام والضياء، وربُّ الأرض والسماء، ربُّ الأوَّلين والآخِرين، خالق الشمس والقمر والكواكب السائرة والثوابت الحائرة، خالق اللَّيل بظلامه، والنهار بضيائه، والكلُّ تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون، وفي فلك يَسبحون؛ يتعاقبون في سائر الأوقات، ويدورون، فهو تعالى الخالق المالك المتصرِّف في خلقه بما يشاء.

فلما قامت الحجج على فرعون، وانقطعت شبهه، ولم يبق له قولٌ سوى العناد، عدل إلى استعمال سلطانه، وجاهه، وسطوته ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الشعراء: ٢٩ - ٣٣]. وهذان هما البرهانان اللذان أَيَّده الله بهما، وهما العصا واليد. وذلك مقامٌ أظهر فيه الخارقُ العظيم الذي بَهر به العقول والأبصار حين ألقى عصاه؛ فإذا هي ثعبان مبين، أي: عظيم الشكل، بديعٌ


(١) المرازبة: واحدها: مرزبان، وهو الفارس الشجاع المقدَّم على القوم، دون الملك، وهو معرَّب. اللسان.