للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال مقاتلُ بن حيَّان: صلَّيتُ وراءَ عمرَ بنِ عبد العزيز فقرأ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤] فجعل يكرِّرها وما يستطيعُ أنْ يتجاوزها (١).

وقالتِ امرأتُه فاطمة: ما رأيتُ أحدًا أكثرَ صلاةً وصيامًا منه، ولا أحدًا أشدَّ فرَقَا من ربِّه منه، كان يصلِّي العشاء ثم يجلسُ يبكي حتى تغلِبَه عيناه، ثم ينتبه فلا يزالُ يبكي حتى تغلبه عيناه (١).

قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش، فيذكرُ الشيء من أمر الآخرة فينتفضُ كما ينتفضُ العصفور في الماء، ويجلسُ يبكي، فأطرَحُ عليه اللحاف رحمة الله له، وأنا أقول: يا ليتَ كان بيننا وبين الخلافة بعدُ المشرقَيْن، فو الله ما رأينا سرورًا منذ دخلنا فيها (٢).

وقال علي بن زيد: ما رأيتُ رجلينِ كأنَّ النار لم تُخلَقْ إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز (٣).

وقال بعضهم: رأيتُه يبكي حتى بكى (٤) دمًا. قالوا: وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الأعراف: ٥٤]. الآية، ويقرأ: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ [الأعراف: ٩٧]. ونحو هذه الآيات (٤).

وكان يجتمع إليه كل ليلة أصحابُه من الفقهاء، فلا يذكرون إلَّا الموتَ والآخرة. ثم يبكون حتى كأنَّ بينهم جنازة (٥).

وقال أبو بكر الصولي عن المبرِّد: كان عمر بن عبد العزيز يتمثَّلُ بقولِ الشاعر:

فما تزود مما كانَ يجمعهُ … سوى حَنُوطٍ غداةَ البينِ في خِرَقِ

وغيرَ نفحةِ أعوادٍ تُشبُّ لهُ … وقلَّ ذلكَ من زادٍ لمنطلقِ

بأيِّما بلدٍ كانتْ منيتُه … إنْ لا يسِرْ طائعًا في قصدِها يُسَقِ (٦)

ونظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازةٍ إلى قوم قد تلثَّموا من الغُبار والشمس، وانحازوا إلى الظِّلّ، فبكى وأنشأ يقول (٧):

مَنْ كانَ حينَ تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ … أو الغبارُ يخافُ الشَّيْنَ والشَّعَثا


(١) تاريخ ابن عساكر (٥٤/ ١٩١).
(٢) انظر تاريخ ابن عساكر (٥٤/ ١٩١، ١٩٢).
(٣) تاريخ ابن عساكر (٥٤/ ١٩٢).
(٤) تاريخ ابن عساكر (٥٤/ ١٩٣).
(٥) انظر تاريخ ابن عساكر (٥٤/ ١٩٤).
(٦) تاريخ ابن عساكر (٥٤/ ١٩٥).
(٧) في (ق): "وأنشد"، وفي تاريخ ابن عساكر: "وقال"، والمثبت من (ب، ح).

<<  <  ج: ص:  >  >>