للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليه، فرَدَّ اللّه كيدَهُمْ في نحورِهم، وجعل تدميرَهم في تدبيرِهم، وذلك أنَّ المسلمينَ لَمّا سمعوا بذلك أخذَتْهُمْ حَمِيَّةُ الإسلام وازدادوا حَنَقًا على عدوِّهم، وعَزَموا على الأخْذِ بالثأر، فقصدوا الموضعَ الذي فيه أسَد، فإذا هو حَيّ، قد اجتمعتْ عليه العساكرُ من كلِّ جانب، وسار أسَدٌ نحوَ خاقان، حتى أتى جبل المِلْح، وأراد أنْ يخوضَ نَهرَ بَلْخ، وكان معهم أغنامٌ كثيرة، فكَرِه أسَدٌ أنْ يتركَها وراءَ ظهرِه، فأمر كلَّ فارِسٍ أنْ يحمِلَ بين يديه شاةً وعلى عُنُقِهِ شاة، وتوعَّدَ منْ لم يفعلْ ذلك بقَطْع اليد، وحَمَل هو معه شاةً، وخاضوا النهر، فما خلَصُوا منه جيدًا حتى دَهِمَهُم خاقانُ من ورائهم في خيلٍ دُهْم، فقتلوا مَنْ وجدوه لم يقطَعِ النهرَ وبعضَ الضَّعَفَة، فلما وقفوا على حافةِ النهر أحجموا وظَنَّ المسلمون أنَّهم لا يقطعون إليهم النهر، فتشاور الأثراكُ فيما بينهم ثم اتفقوا على أنْ يحمِلوا حملةً واحدة، وكانوا خمسين ألفًا، فيقتحمون النهر فضربوا بكُوساتِهم (١) ضربًا شديدًا حتى ظنَّ المسلمون أنَّهم معهم في عسكرِهم، ثم رَمَوا بأنفسِهم في النهر رَمْيَةَ رجلٍ واحد، فجعلَتْ خيولهُم تَنْخُرُ أشدَّ النَّخِيرِ، وخرجوا منه إلى ناحيةِ المسلمين، فثبتَ المسلمونَ في معسكرِهم، وكانوا قد خَنْدَقوا حولَهم خندقًا لا يَخلُصون إليهم منه، فباتَ الجيشانِ تتراءى ناراهما، فلما أصبحا مالَ خاقان على بعض الجيوش، فَقَتلَ منهم خَلقًا، وأسَرَ أُمَمًا، وأخَذَ أموالًا كثيرة وإبلًا مُوقَرَة، ثم إنَّ الجيشَيْنِ تواجهوا في يوم عيدِ الفِطْر، حتى خاف جيشُ أسَدٍ أنْ لا يُصَلُّوا صلاةَ العِيد، فما صلَّوها إلَّا على وَجَل، ثم سار أسَدٌ بِمَنْ معه حتى نزلَ مَرْجَ بلخ، حتى انقَضَى الشتاء، فلما كان يومُ عيدِ الأضحى خَطَبَ أسَد الناس واستشارَهم في الذهاب إلى مَرْو أو في لقاء خاقان، أو في التحَصُّنِ ببَلْخ، فمنهم مَنْ قال نتحصَّنُ ببلخ، ونبعثُ إلى خالدٍ والخليفة، ومن قائل يشير بالذهابِ إلى مَرْوٍ، وأشار آخرون بِمُلتقاه والتوكُّلِ على اللّه، فوافق ذلك رأيَ أسَدٍ الأسَدّ، فقَصَد بجيشِهِ نحوَ خاقان، وصلَّى بالناسِ ركعَتيْنِ أطالَ فيهما، ثم دعا بدعاء طويل، ثم انصرف وهو يقول: نُصرتُمْ إن شاء اللّه - ثلاثًا. ثم سار بِمَنْ معه من المسلمين، فالتقَتْ مقدِّمَتُهُ بمقدِّمةِ خافان، فقَتَل المسلمون منهم بشرًا كثيرًا، وأسروا أميرَهم، وسبعةً معه، ثم ساق أسدٌ فانتهى إلى أغنامِهم، فاستاقها فإذا هي مئةُ ألف وخمسون ألف شاة، ثم التقى معَهم، وكان خاقانُ في هذا اليوم إنما معه أربعةُ آلاف أو نحوُها ومعه رجلٌ من العرَب قد خَامرَ إليه يقالُ له الحارث بن شُرَيح، فهو يدُلُّه على عَوْراتِ المسلمين، فلما أقبَلَ الناسُ هَرَبتِ الأتراك في كلِّ جانب، وانهزم خاقانُ ومعه الحارث بنُ شريح يحمِّيه ويُثبِّتُه، فتبعَهم أسد فلمَّا كان عندَ الظهيرة انخذلَ خاقانُ في أربعِمئةٍ من أصحابهِ، عليهمُ الخَزّ، ومعَهم الكُوسات (٢) فلما أدركَهُ المسلمون أمرَ بالكوساتِ فضُربَتْ ضربًا شديدًا ضَرْبَ الانصرافِ ثلاثَ مرَّات، فلم يستطيعوا الانصراف، فتقدَّم المسلمون فاحتاطوا على مُعسكرِهم فاحتازوه بما فيه من الأمتعةِ العَظيمة، والأواني من الذهب


(١) الكوسات: مفردها كُوس، بالضم، الطَّبْل. ويقال: هو معرَّب. لسان الحرب (كوس).
(٢) تقدم شرح معناها في الحاشية السابقة.

<<  <  ج: ص:  >  >>