للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هم أكمل عقلًا، وأتمّ معرفة، وأعلى همَّة، وأزهد في الدنيا، وأعلم بما أعدّ الله لأوليائه في الأخرى.

وقوله: ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ لا يحتاج الأمر إلى ذلك إن كان إنما المراد أن تعظمه الملائكة، فالملائكة يعظّمون ويتواضعون لمن هو دون موسى بكثير، كما جاء في الحديث: "إنَّ الملائِكَةَ لتَضَعُ أَجْنِحَتَها لِطَالِبِ العِلْمِ رِضىً بما يَصْنَعُ" (١) فكيف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم، عليه الصلاة والتسليم والتكريم.

وإن كان إنما المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيّد من المعجزات بما يدل قطعًا لذوي الألباب، ولمن قصد إلى الحق والصواب، ولعمي عما جاء به من البيِّنات والحجج الواضحات من نظر إلى القشور وترك اللباب، وطبع على قلبه ربَّ الأرباب، وختم عليه بما فيه من الشد والارتياب، كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذَّاب.

قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾، أي: استخف عقولهم الفاسدة (٢)، ودَرَجهم من حالٍ إلى حالٍ إلى أن صدَّقوه في دعواه الربوبية، لعنه الله وقبَّحهم ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾.

﴿فَلَمَّا آسَفُونَا﴾ أي: أغضبونا ﴿انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ (٣) أي: بالغرق والإهانة، وسَلْب العزِّ، والتبدّل بالذُّلِّ، وبالعذاب بعد النِّعمة، والهوان بعد الرفاهية، والنار بعد طيب العيش، عياذًا بالله العظيم وسلطانه القديم من ذلك. ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا﴾ أي: لمن اتبعهم في الصفات ﴿وَمَثَلًا﴾ أي: لمن اتَّعظ بهم وخاف من وبيل مصرعهم ممن بَلَغه جليَّةُ خبرهم، وما كان من أمرهم، كما قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ [القصص: ٣٨ - ٤٢].

يخبر أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق، وادَّعى مَلِكُهم الباطلَ، ووافقوا عليه


(١) قطعة من حديث صفوان بن عسال المرادي، أخرجه الترمذي (٣٥٣٦) في الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده. وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو كما قال.
(٢) قوله: الفاسدة. زيادة في ب.
(٣) في ب: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.