للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يعودون إلى جهلهم العريض الطويل، هذا والعظيم الحليم القدير يُنظرهم ولا يُعَجّل عليهم، ويؤخِّرهم ويتقدَّم بالوعيد إليهم، ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم والإنذار إليهم أخْذَ عزيز مقتدر، فجعلهم عِبرةً ونَكالًا وسلفًا (١) لمن أشبههم من الكافرين، ومَثَلًا لمن اتّعظ بهم من عباده المؤمنين، كما قال -وهو أصدق القائلين- في سورة ﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾:

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ [الزخرف: ٤٦ - ٥٦].

يذكر تعالى إرسالَه عبده الكليم الكريم إلى فرعون الخسيس اللئيم، وأنّه تعالى أيّد رسولَه بآيات بيّنات واضحات تستحق أن تقابَل بالتعظيم والتصديق، وأن يرتدعوا عمّا هم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحقّ والصراط المستقيم، فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزؤون، وعن سبيل الله يصدُّون، وعن الحق يصدّون، فأرسل الله عليهم الآيات تَتْرى يتبع بعضُها بعضًا، وكلّ آية أكبر من التي تتلوها، لأن التوكيد أبلغ مما قبله ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾. لم يكن لفظ السّاحر في زمنهم نقصًا ولا عيبًا؛ لأن علماءهم في ذلك الوقت هم السَّحَرة، ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه وضراعتهم لديه.

قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾. ثم أخبر تعالى عن تبجُّح فرعون بملكه وعظمة بلده وحسنها، وتخرُّق الأنهار فيها، وهي الخلجانات التي يكسرونها أمام (٢) زيادة النيل، ثمّ تبجّح بنفسه وحِلْيته، وأخذ يتنقّص رسولَ الله موسى ويزدريه بكونه ﴿وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ يعني: كلامه؛ بسبب ما كان في لسانه من بقيّة تلك اللثّغة التي هي شرف له وكمال وجمال، ولم تكن مانعَةً له، أن كلمه الله تعالى، وأوحى إليه، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه، وتنقَّصه فرعون -لعنه الله- بكونه لا أساور في يديه ولا زينة عليه (٣)، إنما ذلك من حلية النّساء لا يليق بشهامة الرجال فكيف بالرسل الذين


(١) قال الله تعالى في سورة الزخرف: ٥٥ - ٥٦: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ أي: جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخِرون.
(٢) في ب: أيام.
(٣) في ب: ولا زينة على موسى.