للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نخوضَ فيه، ولا لِثأرٍ قَدِيم نِيلَ منَّا. ولكنَا لما رأينا مصابيحَ الهُدَى عُطِّلَتْ (١)، وضَعُفَ القائلُ بالحق، وقُتل القائمُ بالقسط، ضاقَتْ علينا الأرضُ بما رَحُبَتْ، وسمعنا داعيًا يدعو إلى طاعةِ الرحمن وحُكْمِ القرآن، فأجَبْنا داعيَ الله ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأحقاف: ٣٢]، أقبَلْنَا من قبائلَ شَتَى، النَّفَرُ مِنَا على بعيرٍ واحد، عليهِ زادُهُمْ وأنْفُسُهم، يتَعَاوَرُونَ لِحَافًا واحدًا، قليلونَ مُسْتَضْعَفونَ في الأرض فآوانا الله وأيَّدَنا بنصرهِ، فأصبَحْنا واللهِ بنعمةِ الله إخوانًا، ثم لَقِيَنا رجالُكمْ بِقُدَيْد، فدعَوْناهم إلى طاعةِ الرحمنِ وحُكْمِ القُرآن، ودعَوْنا إلى طاعة الشيطانِ وحُكم بني مروان، فشَتَانَ لعمرُ الله ما بين الغَيِّ والرُّشْد، ثم أقبلوا نحوَنا يُهْرَعُونَ، قد ضربَ الشيطانُ فيهم بِجِرَانِه، وغلَتْ بدمِائِهم مَرَاجِلُه، وصدَق عليهم ظَنُّهُ فاتَّبعوه، وأقبلَ أنصارُ الله عصائبَ وكتائبَ، بكُلِّ مُهَنَّدٍ ذي رونق، فدارَتْ رَحَانا، واستدارَتْ رَحَاهُمْ بضربٍ يَرْتابُ منه المُبْطِلون. وأنتم يا أهل المَدينة، إنْ تَنْصُروا مروانَ يُسْحِتكُمُ الله بعذابِ من عنده أو بأيدينا ويَشْفِ صدورَ قومٍ مؤمنين، يا أهلَ المدينة، أوَّلُكمْ خيرُ أول، وآخِرُكم شَرُّ آخِر، يا أهلَ المدينة، الناسُ مِنَّا ونحن منهم، إلَّا مُشْرِكًا عابدَ وَثَن، أو كافرًا أهلَ كتاب، أو إمامًا جائرًا، يا أهل المدينة، مَنْ زَعَم أنَّ الله يُكَلَّفُ نفسًا فوق طاقَتِها، أو يسألها ما لم يؤتِها فهو لله عدوّ، وأنا له حَرْب، يا أهلَ المدينة، أخبِروني عن ثمانيةِ أسْهُمٍ فرَضَها الله في كتابهِ على القويِّ والضعيف، فجاءَ تاسِعٌ ليس له منها ولا سهمٌ واحد، فأخذها لنفسِهِ مُكابِرًا محارِبًا لِرَبِّه، يا أهلَ المدينة، بَلَغَني أنكم تَنْتَقِصونَ أصحابي، قلتُمْ شَبَابٌ أحداث، وأعرابٌ جُفَاةٌ أجلاف، وَيْحكم! فهل كان أصحابُ رسولِ الله إلَّا شبابًا أحداثًا؟ شُبَّانٌ والله مُكْتَهِلُون في شَبَابِهم، غَضَّةٌ عن الشرِّ أعينُهم، ثَقِيلةٌ عن السَّعْيِ في الباطل أقدامُهم، قد باعوا للهِ أنفسًا تموت، بأنفسِ لا تموت، قد خالطوا كلالَهم بكلالِهم، وقيامَ ليلِهم بصيام نهارهِم، مُنحَنِيةٌ أصلابُهم على أجزاءَ القرآن، كلَّما مرُّوا بآيِةِ خوفٍ شَهَقُوا خوفًا من النار، وإذا مرُّوا بآيةِ شَوْقٍ شَهَقوا شوقًا إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد انتُضيَتْ، وإلى الرَّمَاحِ قد شُرعتْ وإلى السهامِ قد فُوِّقَتْ، وأرعدَتِ الكتيبةُ بصواعقِ الموت استخفُّوا واللهِ وَعِيدَ الكتيبةِ لِوَعِيدِ الله في القرآن، ولم يستخفُّوا وَعِيدَ الله لِوَعيدِ الكتيبة، فطُوبى لهم وحسنُ مآب. فكم من عينِ في مناقيرِ الطيرِ طالما فاضَتْ في جَوْفِ الليل من خشيةِ الله؟ وطالما بكَتْ خاليةً من خوفِ الله! وكم من يدٍ زالَتْ عن مَفْصِلها طالما ضرَبَتْ في سبيل الله! وجاهدَتْ أعداءَ الله، وطالما اعتمَدَ بها صاحبُها في طاعةِ الله! أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ من تقصيري، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكَّلتُ، وإليه أُنِيب (٢).

ثم روى المدائني عن العباس، عن هارون، عن جَدِّه، قال: كان أبو حمزةَ الخارجي قد أحسن


(١) في (ق): "مصابيح الحق طمست" والمثبت من (ب، ح).
(٢) أخرج الخبر الطبري في تاريخه (٤/ ٣٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>