للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَلَأَهُ﴾ يعني قومَه من القبط ومَن كان على ملّته ودان بدينه ﴿زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ أي: وهذا يغترُّ به من يُعظِّم أمرَ الدنيا فيحسب الجاهلُ أَنَّهم على شيء لكون هذه الأموال، وهذه الزِّينة من اللباس، والمراكب الحسنة الهنيَّة، والدُّور الأنيقة، والقصور المبنيَّة، والمآكل الشهية، والمناظر البهية، والمُلك العزيز والتمكين، والجاه العريض في الدنيا لا الدين ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾، قال ابن عباس ومجاهد: أي أهلكها. وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، والضحاك: اجعلها حجارةً منقوشةً كهيئة ما كانت. وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حِجارةً. وقال محمد بن كعب: جعل سُكَّرَهُمْ حجارةً، وقال أيضًا: صارت أموالهم كلّها حجارة. ذُكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام (١): قم إيتني بكيس، فجاءه بكيس، فإذا فيه حِمْصٌ وبَيضٌ قد قطع وقد حُوّل حجارة، رواه ابن أبي حاتم. وقوله: ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ قال ابن عباس: أي اطبع عليها، وهذه دعوةُ غضبٍ لله تعالى ولدينه ولبراهينه، فاستجاب الله تعالى لها وحقّقها وتقبَّلها، كما استجاب لنوح في قومه حيث قال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧] ولهذا قال تعالى، مخاطبًا لموسى حين دعا على فرعون وملئهِ وأَمَّن أخوه هارون على دعائه، فنزل ذلك منزلة الداعي أيضًا: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

قال المفسرون (٢) وغيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيدٍ لهم، فأذن لهم وهو كارهٌ، ولكنهم تجهزوا للخروج، وتأهَّبوا له، وإنّما كان في نفس الأمر مكيدةٌ بفرعون وجنوده ليتخلّصوا منهم ويخرجوا عنهم، وأمرهم الله تعالى -فيما ذكره أهل الكتاب- أن يستعيروا حليًّا منهم، فأعاروهم شيئًا كثيرًا، فخرجوا بليل، فساروا مستمرّين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد الشام، فلما علم بذهابهم فرعونُ حَنِق عليهم كلّ الحنق، واشْتَدَّ غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه، وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم (٣).

قال الله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٥٢ - ٦٨].


(١) في ط: لغلام له. وقد ساق الطبري الكثير من الآراء في تفسير ذلك (١١/ ١٠٨) وما بعدها.
(٢) انظر الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) (١١/ ٢٣٥).
(٣) من قوله: واشتد غضبه … إلى هنا زيادة من ب وط.