للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما زال يراسِلُهُ ويستدعيه ويَخْدَعُه ويُماكِرُهُ حتَّى استحضَرَهُ فقتَلَه كما قدَّمنا بيانه (١).

قال بعضُهم كتبَ المنصورُ إلى أبي مسلم: أمَّا بعد، فإنه يُرينُ على القلوب، ويَطْبَعُ عليها المعاصي فعِ أيها الطائش، وأفِقْ أيُّها السَّكْران، وانتبِهْ أيها النائم، فإنَّك مغرورٌ بأضغاثِ أحلام كاذبة، في بَرْزَخ دُنيا قد غرَّتْ منْ كانَ قَبْلَك، وُسِمَ بها سوالفُ القُرون ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ [مريم: ٩٨] وإن اللَّه لا يُعجِزُهُ منْ هرَب، ولا يَفُوته من طلب، فلا تغترّ بمن معك من شيعتي وأهلِ دعوتي، فكأنَّهم قد صالوا عليك بعدَ أنْ صالوا معكَ إنْ أنتَ خلعتَ الطاعةَ وفارقتَ الجماعة، وبدا لَكَ من اللَّه ما لم تكنْ تحتسِب، مهلًا مهلًا، احذرِ البغيَ أبا مسلم، فإنه من بَغَى واعتَدَى تخفَى الله عنه، ونصر عليه منْ يصرَعُهُ لليدينِ والفمِ، واحذرْ أنْ تكونَ سُنَّةً في الذين قد خَلَوْا من قبلك، ومُثْلةً لمن يأتي بعدَك، فقد قامتِ الحُجة، وأعذرتُ إليك وإلى أهل طاعتي فيك. قال تعالى: (﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٥].

فأجابه أبو مسلم: أما بعد فقد قرأتُ كتابَك، فرأيتُك فيه للصواب مجانبًا، وعن الحقِّ حائدًا، إذ تضربُ فيه الأمثالَ على غيرِ أشكالِها، وكتبتَ إليَّ فيه آياتٍ مُنْزلةً من الله للكافرين، وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وإنَّني والله ما انسلختُ من آياتِ الله، ولكنَّني يا عبدَ اللّهِ بن محمد، كنتُ رجلًا متأوِّلًا فيكم من القرآن آياتٍ أوجبَتْ لكمُ الولايةَ والطاعة، فأتمَمْتُ بأخوينِ لك من قبلِك، ثم بكَ من بعدِهما، فكنتُ لهما شيعةً متديِّنًا، أحسبُني هاديًا مُهتدِيًا، وأخطأتُ في التأويل، وقِدْمًا أخطأ المتأوِّلون، وقد قال اللَّه تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ٥٤]؛ وإنَّ أخاكَ السفِّاحَ ظَهَرَ في صورةِ مَهْدِيّ، وكان ضالًا، فأمَرَنِي أن أُجَرِّدَ السيف وأقتلَ بالظِّنَّة، وأُقدمَ بالشُّبْهَة، وأرفعَ الرَّحْمَة، ولا أُقيلَ العَثَرة، فوترتُ أهلَ الدُّنْيا في طاعتِكم، وتَوْطِئَة سُلطانكم، حتَّى عرَّفكم اللَّه منْ كانَ جَهِلَكُم، ثم إن الله تدارَكَني منه بالنَّدَم، واستنقذني بالتَّوبة، فإنْ يَعْفُ عنِّي ويصفَح، فإنه كان للأوَّابين غفورًا، وإنْ يُعاقِبْني فبذنوبي، وما ربُّكَ بظلامٍ للعَبيد.

فكتب إليه المنصور: أمَّا بعدُ أيها المجرمُ العاصي، فإنَّ أخي كان إمامَ هُدى، يَدْعو إلى الله على بَيِّنةٍ من رَبّه، فأوضح لك السبيل، وحَمَلكَ على المنهِج السَّديد، فلو بأخي اقتديت لمَا كنتَ عن الحقِّ حائدًا، وعن الشيطانِ وأوامرِهِ صادرًا، ولكنَّه لم يسنحْ لكَ أمرانِ إِلَّا كنتَ لأرشَدِهما تاركًا، ولأغواهُما راكبًا، تقتُل قتلَ الفراعنة، وتبطِشُ بطشَ الجبابرة، وتَحكُمُ بالجَوْرِ حُكْمَ المفسدين، وتبذِرُ المالَ وتضَعُه في غير مَوَاضعِهِ فعلَ المسرفين؛ ثم من خَبَري أيها الفاسق، أنِّي قد ولَّيتُ موسى بن كعبٍ


(١) انظر ص (٢٩١) من هذا الجزء.

<<  <  ج: ص:  >  >>