للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خُراسان، وأمَرْتُهُ أنْ يُقيمَ بنَيْسابور، فإنْ أردتَ خُراسان لَقيَكَ بمَنْ معه من قُوَّادي وشيعتي، وأنا مُوَجِّهٌ للقائك أقرانَك، فاجْمَعْ كَيْدك وأمْرُكَ غيرُ مسدَّدٍ ولا مُوَفَّق؛ وحَسْبُ أميرِ المؤمنينَ ومَنِ اتَّبَعَهُ اللَّه ونعمَ الوَكيل.

ولم يزَلِ المنصورُ يُراسلهُ تارةً بالرغبة، وتارةً بالرَّهْبة، ويستخِفُّ أحلامَ منْ حَوْلَهُ من الأمراءَ والرسُل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور، ويَعِدُهم حتَّى حَسَّنوا لأبي مسلم في رأيه القُدومَ عليه سوى أمير معه يُقال له نَيْزك، فإنَّه لم يُوافقْ على ذلك، فلمَّا رأى أبا مسلم وقد انصاعَ لهم أنشدَ عن ذلك البيت المتقدِّم (١) وهو:

ما للرجال مع القضاء مُحالةٌ .... ذهب القضاءُ بحيلةِ الأقوام

وأشار عليه بأن يقتلَ المنصور ويستخلفَ بدَلَه؛ فلم يُمْكِنْهُ ذلك، فإنَّه لما قَدِمَ المدائن تلقَّاهُ الأمراءُ عن أمرِ الخليفة، فما وصل إلَّا آخرَ النهار، وقد أشار أبو أيوب كاتبُ الرسائل أنْ لا يَقْتُلَهُ يومَهُ هذا كما تقدَّم. فلما وقف بين يدي الخليفة أكرَمهُ وعَظَمهُ وأظهرَ احترامَه وقال: اذهبِ الليلةَ فأذهبْ عنك وعْثاءَ السَّفَر ثم ائتِني من الغد. فلما كان الغَدُ أرصَدَ لهُ من الأمراءَ منْ يَقْتُلُه منهم عثمان بن نَهِيك، وشبيب بن واج، وأرسل إليه رسلًا تترى ليقدم عليه، فقتلوه كما تقدَّم (٢).

ويُقال بل أقام أيامًا يُظهِرُ له المنصورُ الإكرام والاحترام، ثم بَدَا له منه الوَحْشةُ، فخاف أبو مسلم، واستشفَعَ بعيسى بنِ موسى، واستجارَ به وقال: إني أخافُهُ على نفسي. فقال: لا بأس عليك. فانطلِقْ فإنِّي آتٍ وراءَكَ، أنتَ في ذمَّتي حتَّى آتيَكَ. ولم يكنْ مع عيسى خبرٌ بما يُريدُ بهِ الخليفة؛ فجاء أبو مسلم يستأذنُ المنصور، فقالوا له: اجلِسْ هاهنا، فإنَّ أميرَ المؤمنين يتوضأ، فجلس وهو يودُّ أنْ يطولَ مجلسُه، ليجيءَ عيسى بنُ موسى، فأبطأ، وأذنَ له الخليفة، فدخل عليه، فجعل يُعاتِبُهُ في أشياءَ صدَرَتْ منه، فيعتذرُ عنها جيدًا، حتَّى قال له: فلِمَ قتلتَ سليمان بن كَثير، وإبراهيمَ بنَ ميمون وفلانًا وفلانًا؛ قال: لأنَّهم عصَوْني وخالفوا أمْري. فغَضبَ عندَ ذلكَ المنصور وقال: وَيْحَك! أنتَ تقتُلُ إذا عُصيت، وأنا لا أقتُلُكَ وقد عصَيْتَني؟! وصَفَّقَ بيدَيْه، وكانتِ الإشارةَ بينه وبين أولئكَ المُرْصَدِين لقَتْلِه، فتبادروا إليه ليقتلوه، فضرَبَهُ أحدُهم فقطَعَ حمائلَ سيفِه، فقال: يا أميرِ المؤمنين استبقِني لأعدائك. فقال: وأيُّ عدوٍّ أعْدَى منك؟! ثم زجَرَهُم المنصور، فقطَّعوهُ قِطَعًا ولفُوْهُ في عباءة، ودخل عيسى بن موسى على إثْر ذلك، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا أبو مسلم. فقال: إنا للّه وإنَّا إليه راجعون. فقال له المنصور: أحمد اللَّه الذي هجمت عليَّ نِعَمُه، ولم تَهجُمْ عليَّ نِقَمُه. ففي ذلك يقول أبو دُلامة:


(١) تقدم ص (٢٩٤).
(٢) تقدم ص (٢٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>