ولما قتله ورآه طَريحًا بين يديه قال:
قد اكتنفَتْك خَلَّاتٌ ثلاثٌ … جَلَبْنَ عليك مَحْتوم الحِمَام
خِلافُكَ وامتناعُكَ من يَمِيني … وقَوْدُكَ للجماهيرِ العِظَامِ
ومن شعره أيضًا:
المرءُ يأمُلُ أنْ يَعِيـ … ـش وطولُ عُمْرٍ قد يَضُرُّهْ
تَبْلَى بشاشَتُهُ ويَبْـ … ـقى بعدَ حُلْوِ العيشِ مُرُّهْ
وتَخُونُهُ الأيامُ حَتْـ … ـتَى لا يَرَى شيئًا يَسُرُّهْ
كم شامِتٍ بي إنْ هَلَكْـ … ـتُ وقائلٍ للَّهِ دَرُّهُ (١)
قالوا: وكان المنصور في أولِ النهار يتصدَّى للأمر بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكر، والولايات والعزل، والنظر في مصالح العامَّة، فإذا صلى الظهر دخل منْزِلَهُ واستراح إلى العصر، فإذا صلَّاها جلس لأهلِ بيتِه، ونظرَ في مصالحِهِم الخاصَّة، فإذا صلَّى العِشاء نظر في الكتب والرسائل الواردَةِ من الآفاق، وجلس عندَهُ مَنْ يُسَامِرُهُ إلى ثلثِ الليل. ثم يقومُ إلى أهله، فينامُ في فراشِهِ إلى الثُّلُثِ الآخِر، فيقومُ إلى وضوئه وصلاتِه حتى يتفجر الصباح، ثم يخرجُ فيُصَلِّي بالناس، ثم يدخلُ فيجِلسُ في إيوانِه.
وقد وَلَّى بعضَ العُمَّال على بلد، فبلَغَهُ أنه قد تصدَّى للصَّيد، وأعَدَّ لذلك كِلابًا وبُزَاةً، فكتب إليه: ثَكِلَتْكَ أمُّك وعشيرتُك، وَيْحك! إنا إنما استكفيناكَ واستعمَلْناك على أمورِ المسلمين، ولم نستكفِكَ أمورَ الوحوش في البَراري، فسَلِّمْ ما تَلِي من عَمَلِنا إلى فلان، والْحَقْ بأهلك مَلُومًا مَدْحورًا.
وأُتِي يومًا بخارجيٍّ قد هزَمَ جيوشَ المنصور غيرَ مرَّة، فلمّا وقف بين يدَيْهِ قال له المنصور: وَيْحَك يا بن الفاعلة، مِثلُكَ يَهْزِمُ الجيوش! فقال الخارجي: وَيْلَك! سوأةً لك، بيني وبينك أمسِ السيفُ والقتل واليومَ القَذْفُ والسبّ، وما يؤمنكَ أنْ أرُدَّ عليكَ وقد يئستُ من الحياة فما أستقبلُها أبدًا. قال: فاستَحى منه المنصورُ وأطلقَه، فما رأى له وجهًا إلى الحَوْل.
وقال لابنِهِ لَمَّا ولَّاهُ العَهْدَ: يا بُنَى، ائتدِمِ النعمةَ بالشُّكر، والقُدْرةَ بالعَفْو، والنصرَ بالتواضُع، والتألُّفَ بالطاعة. ولا تنسَ نَصِيبَك من الدنيا، ونصيبَكَ من رحمةِ اللَّه.
وقال أيضًا: يا بُنَيّ، ليس العاقلُ مَنْ يحتالُ للأمرِ الذي وقَعَ فيه حتى يخرُجَ منه، ولكنِ العاقلُ الذي يحتالُ للأمرِ الذي غَشِيَهُ حتى لا يقعَ فيه. وقال المنصور: يا بُني، لا تجلسْ مجلسًا إلَّا وعندَكَ من أهلِ
(١) الأبيات في تاريخ بغداد (١٠/ ٦٠).