للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيسوؤها موتُ الخليفةِ مُحْرِمًا … ويَسُرُّها أنْ قام هذا الأرْأفُ

ما إنْ رأيت كما رأيتُ ولا أرَى … شَعَرًا أُرَجّلُهُ وآخرَ يُنْتَفُ

هَلَكَ الخليفةُ يالَ أُمَّةِ أحمدٍ … وأتاكُمُ من بعدِهِ منْ يَخْلُفُ

أهدَى لِهذا اللَّهُ فَضْلَ خلافةٍ … ولذاكَ جَنَّاتِ النَّعيمِ تُزَخْرَفُ (١)

وقد قال المهديُّ يومًا في خطبة:

أيُّها الناس، أسِرُّوا مثلَما تُعْلِنون من طاعَتِنا تَهْنِكُمُ العافية، وتَحْمَدوا العاقبة؛ واخفِضوا جناحَ الطاعةِ لمنْ ينشُرُ مَعْدِلَتَهُ فيكم، ويَطْوِي ثوبَ الإصْرِ عنكم، وأهالَ عليكم السلامةَ ولينَ المعيشةِ من حيثُ أراهُ اللَّه، مقدِّمًا ذلك على فعلِ من تقدِّمَه؛ واللَّه لأفْنِيَنَّ عُمري من عقوبتِكم، ولأحملَنَّ نفسي على الإحسانِ إليكم. قال: فأشرَقَتْ وجوهُ الناسِ من حُسنِ كلامِه؛ ثم استخرج حوَاصلَ أبيه من الذهبِ والفِضَّةِ التي كانتْ لا تُحدُّ ولا تُوصفُ كثرةً؛ ففرَّقَها في الناس، ولم يُعطِ أهلَهُ وموالِيَهُ منها شيئًا، بل أجْرَى لهم أرزاقًا بحَسَبِ كفايتِهم من بيتِ المال، لكلِّ واحدٍ خمس مئةٍ في الشهر، غير الأُعطيات. وقد كان أبوهُ حريصًا على توفيرِ بيتِ المال، وإنما كان يُنفقُ في السنة ألفَيْ درهم، من مال السَّرَاة. وأمر المهديُّ ببناء مسجدِ الرُّصافة، وعُمل خندقٌ وسُورٌ حولَها. وبَنى مُدُنًا ذكرْناها فيما تقدَّم.

وذُكر له عن شريك بن عبد اللَّه القاضي أنه لا يرى الصلاةَ خلفَه، فاحضره فتكلَّم معه، ثم قال له المهدي في جملةِ كلامه: يا ابنَ الزانية! فقال له شريك: مَهْ، مَهْ يا أميرَ المؤمنين، فلقد كانتْ صوَّامةً قوَّامة. فقال له: يا زِنْديق، لأقتلنَّك. فضحك شريك فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ للزنادقةِ علاماتٍ يُعرفون بها، شربهم القهوات، واتخاذهم القينات. فأطرَقَ المهدي، وخرج شريك من بين يديه.

وذكروا أنه هاجتْ ريحٌ شديدة في زمن المهدي، فدخل المهديُّ بيتًا في دارِهِ، فألزَقَ خدَّهُ بالتراب وقال: اللهمَّ إنْ كنتُ أنا المطلوب بهذه العقوبةِ دون الناس فها أنا ذا بين يديك؛ اللهمَّ لا تُشْمتْ بي الأعداء من أهل الأديان. فلم يزل كذلك حتى انجلَتْ.

ودخل عليه رجلٌ يومًا ومعه نَعْل، فقال: هذه نعلُ رسولِ اللَّه قد أهديتُها لك. فقال: هاتها. فناوله إيَّاها فقبَّلَها ووضعها على عينَيْه، وأمر له بعشرةِ آلاف درهم؛ فلما انصرف الرجل قال المهدي: واللَّه إني لأعلمُ أنَّ رسولَ اللَّه لم ير هذه النعل، فضلًا عن أن يلبسَها، ولكنْ لو ردَدْتُه لذهب يقولُ للناس أهديتُ إليه نعلَ رسولِ اللَّه فردَّها عليّ. فتصدِّقه الناس، لأنَّ العامَّةَ تميلُ إلى أمثالِها، ومن شأنِهم نصرُ الضعيفِ على القَوي إنْ كان ظالمًا، فاشترينا لسانَهُ بعشرةِ آلاف درهم، ورأينا هذا أرجحَ وأصلح.


(١) الأبيات في ديوان أبي دلامة ص (٨٢). وبعدها بيت واحد:
فابْكُوا لِمَصْرَعِ خَيْرِكُمْ ووَلِيكُمْ … وَاسْتَشْرِفُوا لِمَقَامِ ذا وتَشَرَّفُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>