للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على قَدْرِ جرائمِ الرَّعِيَّة. فأمر له بمئةِ ألف، فحملَتْ بين يدَيْ معنٍ إلى ذلك الرجل، فقال له معن: خُذِ المال وادْعُ لأميرِ المؤمنين، وأصْلِحْ نِيَّتَكَ في المستقبل.

وقَدِمَ المهديُّ مرَّةً البصرة، فخرج ليُصلِّيَ بالناس، فجاء أعرابيٌّ فقال: يا أمير المؤمنين، مُرْ هؤلاءِ فلينتظروني حتى أتوضأ -يعني المؤذِّنين- فأمرَهُمْ بانتظارِه، ووقف المهديُّ في المِحراب لم يُكَبِّرْ حتى قيل له: هذا الأعرابيُّ قد جاء فكبَّرَ. فتعجَّبَ الناسُ من سمَاحة أخلاقِه.

وقَدِم أعرابيٌّ ومعه كتابٌ مَخْتوم، فجعل يقول: هذا كتابُ أميرِ المؤمنين إلى ابنِ الرجل الذي يُقال له الربيع الحاجب. فأخذ الكتابَ وجاء به إلى الخليفة، وأوقف الأعرابيَّ وفتح الكتاب، فإذا هو قطعةُ أديم، فيها كتابةٌ ضعيفة، والأعرابيُّ يزعُمُ أنَّ هذا خط الخليفة؛ فتبسَّم المهديُّ وقال: صدَقَ الأعرابي، هذا خطِّي إني خرجتُ يومًا إلى الصَّيد، فضِعْتُ عن الجيش، وأقبل الليل، فتعوَّذْتُ بتعويذِ رسولِ اللَّه ، فرُفع لي نارٌ من بعيد، فقصدتُها، فإذا هو الشيخُ وامرأتُه في خِبَاء يوقِدان نارًا، فسلَّمْتُ عليهما، فردَّا السلام، وفرش لي كساء، وسقاني من لَبنٍ مَشُوبٍ بماءٍ، فما شربتُ شيئًا إلَّا وهو أطيبُ منه، ونمتُ نومةً على تلك العباءة، ما أذكرُ أني نِمْتُ أحْلَى منها. فقام إلى شُوَيْهةٍ فذبحها، فسمعتُ امرأتَهُ تقول له: عمَدْتَ إلى مَكْسَبِكَ ومعيشةِ أولادِك فذبحتَها! أهلكتَ نفسَك وعيالَك. فما التفتَ إليها. واستيقظْتُ فاشتَوَيْتُ من لَحمِ تلك الشُّويهةِ وقلت له: أعندَكَ شيءٌ أكتُبُ لك فيه كتابًا؟ فأتاني بهذه القطعة، فكتبتُ له بعودٍ من ذلك الرَّمَاد خمسَمئةِ ألف، وإنما أردتُ خمسين ألفًا، واللَّه لأنفِذَنَّها له كلَّها، ولو لم يكنْ في بيتِ المالِ سواها. فأمَرَ له بخمسمئةِ ألف. فقَبضَها الأعرابيُّ واستمرَّ مقيمًا في ذلك الموضعِ في طريقِ الحاجِّ من ناحيةِ الأنبار، فجعَلَ يَقْري الضَّيفَ ومنْ مَرَّ به من الناس، فعُرف منْزِلُهُ بِمَنْزِلِ مُضيفِ أميرِ المؤمنين المهدي.

وعن سوَّارٍ صاحبِ رَحْبَةِ سوَّار قال: انصرفتُ يومًا من عندِ المهدي، فجئتُ منْزلي، فوُضع لي الغداء، فلم تُقبلْ نفسي عليه، فدخلتُ خلوتي لأنامَ في القائلة، فلم يأخُذْني نوم، فاستدعَيْتُ بعضَ حَظَايايَ لأتَلَهَّى بها، فلم تنبَسِطْ نفسي إليها، فنهضتُ فخرجتُ من المنْزِل، وركبتُ بغلتي، فما جاوَزْتُ الدارَ إلَّا قليلًا حتى لقيَني رجلٌ ومعه ألفا درهم، فقلت: من أين هذه؟ فقال: من مُلكِكَ الجديد. فاستصحبتُه معي، وسرتُ في أزِقَّةِ بغداد لأتشاغلَ عمَّا أنا فيه من الضجَر، فحانَتْ صلاةُ العصر عند مسجدٍ في بعض الحارات، فنزلْتُ لأصلِّي فيه، فلما قُضيتِ الصلاة إذا برجل أعمى، قد أخذَ بثيابي فقال: إنَّ لي إليك حاجة. فقلت: ما حاجتُك؟ فقال: إني رجلٌ ضرير، ولكني لما شممْتُ رائحةَ طيبك ظننتُ أنكَ من أهلِ النِّعمةِ والثَّرْوة، فأحببتُ أن أُفْضِي إليك بحاجتي. فقلت: وما هي؟ فقال: إنَّ هذا القصرَ الذي تجاه المسجد كان لأبي، فسافر منه إلى خُراسان، فباعَهُ وأخذَني معه وأنا صغير، فافترَقْنا هناك، وأصابني أنا الضررُ فرَجَعْنا إلى بغداد بعد أن مات أبي، فجئتُ إلى صاحبِ هذا القصر

<<  <  ج: ص:  >  >>