أطلبُ منه شيئًا أتبَلَّغُ به، لعلِّي أجتمعُ بسَوَّار، فإنه كان صاحبًا لأبي، فلعله أن يكونَ عنده سَعةٌ يجودُ منها عليّ. فقلت: ومن أبوك؟ فذكر رجلًا كان أصحبَ الناس إليّ، فقلت: إنِّي أنا سوَّار صاحبُ أبيك، وقد منعني اللَّه في يومك هذا النومَ والقرارَ والأكلَ والراحة، حتى أخرجني من منْزلي لأجتمعَ بك، وأجلَسَني بين يديك. وأمرتُ وكيلي فدفع له الألفَي الدرهم التي معه، وقلت له: إذا كان الغَدُ فَأْتِ منْزلي في مكانِ كذا وكذا. وركبتُ فجئتُ دارَ الخلافةِ وقلت: ما أتحفَ المهديَّ الليلةَ في السَّمَرِ بأغربَ من هذا. فلما قصصتُ عليه القصَّة تعجَّب من ذلك جدًّا، وأمر لذلك الأعمى بألفَيْ دينارٍ وقال لي: هل لجك دَيْن؛ قلت: نعم. قال: كم؟ قلت: خمسون ألفَ دينار. فسكت، وحادثني ساعةً، ثم قمتُ من بين يديه، فوصلت المنْزل، إذا الحمَّالون قد سبقُوني بخمسينَ ألفَ دينار، وألفَيْ دينار للأعمى، فانتظرتُ الأعمى أن يجيءَ في ذلك اليوم، فتأخَّر، فلمَّا أمسى عدتُ إلى المهدي، فقال: قد فكَّرتُ في أمرك فوجدتُكَ إذا قضيتَ دَيْنَك لم يبقَ معك شيء، وقد أمرتُ لك بخمسين ألفَ دينارٍ أخرى. فلمَّا كان اليومُ الثالث جاءني الأعمى، فقلت: قد رزقني اللَّه بسببك خيرًا كثيرًا، ودفعتُ له الألفَيْ دينارٍ التي من عند الخليفة، وزدتُهُ من عندي أيضًا.
ووقفتِ امرأةُ المهدي فقالت: يا عُصبةَ رسولِ اللَّه، اقضِ حاجتي. فقال المهدي: ما سمعتُها من أحدٍ غيرِها، اقضوا حاجتَها، وأعطُوها عشرةَ آلاف درهم.
ودخل ابنُ الخياط على المهدي فامتدحَه، فأمر له بخمسينَ ألفَ درهم، ففرَّقها ابنُ الخيَّاط وأنشأ يقول:
أخذتُ بكفي كفَّه أبتغي الغِنَى … ولم أدرِ أنَّ الجودَ من كَفِّهِ يُعْدِي
فلا أنا منه ما أفادَ ذوو الغنى … أفَدْتُ وأعداني فبدَّدْتُ ما عندي
قال: فبلغ ذلك المهدي، فأعطاه بدَلَ كلِّ درهمٍ دينارًا.
وبالجملة فإنَّ للمهدي مآثرَ ومحاسنَ كثيرة، وقد كانت وفاتُهُ بِمَاسَبَذان (١)، كان قد خرجَ إليها ليبعثَ إلى ابنِهِ الهادي، ليحضُرَ إليه من جُرْجان، حتى يخلَعَهُ من ولايةِ العَهْد، ويجعلَهُ بعدَ هارونَ الرشيد، فامتنعَ الهادي من ذلك، فركب المهديُّ إليه قاصدًا إحضارَه، فلما كان بماسَبَذَان مات بها، وكان قد رأى في النوم وهو بقصرِهِ ببغداد، وأظنُّهُ المسمَّى بقصر السلامة، كأنَّ شيخًا وقف ببابِ القصر، ويُقال إنه سمع هاتفًا يقول:
كانِّي بهذا القصرِ قد بادَ أهلُهُ … وأوحشَ منه رَبْعُهُ ومنازِلُهْ
وصار عَميدُ القومِ منْ بعد بَهْجةٍ … ومُلكٍ إلى قبرٍ عليه جنادِلُهْ
(١) انظر التعريف بماسبذان في حاشية (٢) في الصفحة (٤١٠) من هذا الجزء.