وغيرُه من علماء التاريخ، فمِمَّا قيل: إنَّ الرشيد كان قد سلَّم يحيى بن عبد اللَّه بن حسن إلى جعفر البَرْمَكي لِيسجُنَهُ عندَه، فما زال يحيى يترفَّق له حتى أطلقَهُ جعفر، فنَمَّ الفضلُ بنُ الربيع في ذلك على جعفر إلى الرشيد، فقال له الرشيد: وَيْلَك! لا تدخُلْ بيني وبين جعفر، فلعلَّهُ أطلَقَهُ عن أمْرِي وأنا لا أشعُر. ثم سأل الرشيدُ جعفرًا عن ذلك، فصدَّقه، فتغيَّظَ عليه، وحلَفَ لَيَقتُلَنَه. وكرهَ البرامكة، ثم قتلهم وقلاهم بعدَما كانوا أحظَى الناس عندَه وأحبَّهم إليه. وكانتْ أمُّ جعفر والفضل أمَّ الرشيد من الرَّضاعة، وقد جعلهم الرشيدُ من الرفعةِ في الدنيا وكثرةِ المال بسببِ ذلك شيئًا كثيرًا، لم يحصُلْ لِمَنْ قبلَهم من الوزراء، ولا لِمَنْ بعدَهم من الأكابر والرؤساء، بحيثُ إنَّ جعفرًا بَنَى دارًا غَرِمَ عليها عشرين ألفَ ألفِ درهم، وكان ذلك من جُملةِ ما نَقِمَهُ عليه الرشيد.
ويقال: إنما قتلهم الرشيدُ لأنه كان لا يَمُرُّ ببلدٍ، ولا إقليمٍ، ولا مزرعةٍ، ولا بستانٍ إلَّا قيل: هذا لِجعفر. ويُقال: إنَّ البرامكةَ كانوا يُريدون إبطالَ خلافةِ الرشيد، وإظهارَ الزَّنْدَقة. وقيل: إنما قتلهم بسببِ العبَّاسَة. ومن العلماء من أنكَرَ ذلك، وإنْ كان ابنُ جرير قد ذكرَه.
وذكر ابنُ الجوزي أنَّ الرشيد سُئل عن سببِ قتلِهِ البرامكَة فقال: لو أعلمُ أنَّ قميصي يعلَمُ ذلك لأحرقتُه. وقد كان جعفرٌ يدخلُ على الرشيد بغيرِ إذْن، حتى كان يدخُلُ عليه وهو في الفِراش مع حظاياه، وهذهِ وجاهةٌ عظيمة، ومَنْزِلةٌ عالية، وكان عندَهُ من أحظَى العُشَراء على الشراب المسكر -فإنَّ الرشيد كان يستعملُ في أواخرِ أيامِ خلافتِه المسكرَ وكأنَّه المختَلَفُ فيه- وكان أحبَّ أهلِهِ إليه العبَّاسةُ بنتُ المهدي، وكان يُحضِرُها معه، وجعفرٌ البرمكيُّ حاضرٌ أيضًا معَه، فزوَّجَهُ بِها لِيحلَّ النظر إليها، واشترطَ عليه أنْ لا يطأها، وكان الرشيدُ ربما قامَ وتركهما وهما ثَمِلانِ من الشراب، فربما واقَعَها جعفرٌ فحَبِلَتْ منه، فولدَتْ ولدًا وبعثَتْهُ مع بعضِ جواريها إلى مكة، وكان يُرَبَّى بِها.
وذكر ابنُ خَلِّكان في الوفيات أنَّ الرشيد لَمَّا زوَّجَ أختَهُ العبَّاسة من جعفر أحبَّها حُبًّا شديدًا، فراوَدَتْهُ عن نفسِه فامتَنع أشدَّ الامتناع خوفًا من الرشيد، فاحتالَتْ عليه، وكانت أمُّهُ تُهدي له في كلِّ ليلةِ جمعةٍ جارية حسناءَ بِكْرًا، فقالت: أدخِلِيني عليهِ بصفةِ جارية. فهابَتْ ذلك، فتهدَّدَتْها حتى فعلتْ ذلك، فلما دخلَتْ عليه لم يتَحَقَّقْ وجهَها، فواقَعَها، فقالتْ له: كيف رأيتَ خديعةَ بناتِ الملوك؟ وحملَتْ من تلك الليلة، فدخل على أُمِّه فقال: بعتيني واللَّهِ برخيص. ثم إنَّ والدَهُ يحيى بن خالد جعل يُضَيِّقُ على عيالِ الرشيد في النَّفَقَة، حتى شكَتْ زُبَيدةُ ذلك إلى الرشيد مرَّاتٍ، ثم أفشَتْ له سِرَّ العبَّاسة، فاستشاطَ غيظًا، ولما أخبرَتْهُ أنَّ الولدَ قد أرسلَتْ به إلى مكة، حجَّ عامَ ذلك حتى تحقَّقَ الأمر.
ويقال: إنَّ بعضَ الجواري نَمَّتْ عليها إلى الرشيد، وأخبرَتْهُ بما وقع، وأنَّ الولدَ بمكة، وعندَهُ جوارٍ وأموالٌ وحُلِيٌّ كثيرة، فلم يصدِّقْ حتى حجَّ في السنةِ الخالية، ثم كشَفَ الأمرَ عن الحال، فإذا هو كما ذُكر.