للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد حجَّ في هذه السنة التي حجَّ فيها الرشيدُ يحيى بنُ خالدٍ الوزير وقد استشعرَ الغضب من الرشيدِ عليه، فجعل يدعو عندَ الكعبة: اللهمَّ إنْ كان يُرضيِكَ عني سلبُ جميعِ مالي وولدي وأهلي فافعَلْ ذلك، وأبقِ عليَّ منهم الفضل. ثم خرج. فلما كان عند بابِ المسجد رجَعَ فقال: اللهمَّ والفضلُ معَهم، فإنِّي راضٍ برِضاك عني، ولا تستَثْنِ منهم أحدًا.

فلما قفَلَ الرشيدُ من الحجِّ صار إلى الحِيرة، ثم ركب في السُّفن إلى الغَمْرِ من أرضِ الأنبار، فلما كانتْ ليلةُ السبت، سَلْخَ المحرَّم من هذه السنة أرسل مسرورًا الخادمَ ومعه جَمَّاد بن سالم أبو عصمة في جماعةِ من الجند، فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلًا، فدخل عليه مسرورٌ الخادم وعندَهُ بَخْتَيْشُوع المتطَبِّب وأبو زَكَّار (١) الأعمى المُغَنِّي الكَلْوَذاني، وهو في أمرِه وسرورِه وأبو زكَّار يُغنِّيه:

فلا تَبْعَدْ فكُلُّ فتًى سيأتي … عليه الموتُ يَطْرُقُ أو يُغَادِي (٢)

فقال الخادمُ له: يا أبا الفضل هذا الموتُ قد طرَقَك، أجِبْ أميرَ المؤمنين. فقام إليه يُقَبِّلُ قدمَيْه، ويدخُلُ عليه أنْ يُمكنَهُ فيدخلَ إلى أهلِهِ فيُوصِيَ إليهم ويُودِّعَهم، فقال: أمَّا الدخولُ فلا سبيلَ إليه، ولكنْ أوْصِ. فأوْصَى وأعتَقَ جميع مماليكِه أو جماعةً منهم، وجاءت رُسلُ الرشيدِ تستحِثُّه، فأُخرج إخراجًا عَنيفًا، فجعلوا يقودونه حتى أتَوْا به المَنْزِل الذي فيه الرشيد، فحبسَهُ وقيَّدَه بقيدِ حِمار، وأعلموا الرشيدَ بِما كان يفعل، فأمَرَ بضَرْبِ عُنقِه، فجاء السَّيَّافُ إلى جعفر فقال: إنَّ أميرَ المؤمنين قد أمرَني أنْ آتِيَهُ برأسِك. فقال: يا أبا هاشم، لعل أميرَ المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتَبَك فيّ. فعاوَدَهُ فرجَعَ إلى الرشيد، فقال: إنه يقولُ لعلَّك مشغول. فقال: يا ماصَّ بَظَرِ أمِّه، ائتني برأسِه. فكرَّرَ عليه جعفرٌ المقالةَ، فقال الرشيدُ في الثالثة: برئتُ من المهديِّ إنْ لم تأتِني برأسِه لأبعثَنَّ مَنْ يأتيني برأسِكَ ورأسِه. فرجع إلى جعفر، فحزَّ رأسَه وأتى به إلى الرشيد، فألقاه بين يديه، وأرسل الرشيدُ من ليلتِه البُرُدَ بالاحتياطِ على البرامكةِ جميعِهم ببغدادَ وغيرِها، ومن كان منهم بسبيل. فأُخذوا كلُّهم عن آخرِهم، فلم يفْلتْ منهم أحد، وحُبس يحيى بنُ خالد في مَنْزلِه، وحُبس الفضلُ بن يحيى في مَنْزِلٍ آخر، وأُخذ جميعُ ما يَمْلِكونَهُ من الدنيا، وبعث الرشيدُ برأسِ جعفرٍ وجُثتِه، فُنصب الرأسُ عند الجِسْرِ الأعلى، وشُقَّتِ الجُثَّةُ باثنتَيْن، فنُصب نصفُها الواحدُ عند الجسرِ الأسفل، والأخر عند الجسرِ الآخر، ثم أُحرقَتْ بعدَ ذلك، ونُودِيَ في بغداد: أنْ لا أمانَ للبرامكة، ولا لِمَنْ آواهم، إلَّا محمد بن يحيى بن خالد، فإنه مُستَثنًى منهم، لِنُصْحِهِ للخليفة. وأُتِي الرشيد بأنس بن أبي شيخ، كان يُتَّهَمُ بالزَّنْدَقة، وكان مُصاحبًا لجعفر، فدار بينه وبين الرشيد كلام، ثم أخرج


(١) صحفت اللفظة في الأصول، والمثبت من تاريخ الطبري (٤/ ٦٦١)، والإكمال لابن ماكولا (٤/ ١٨٧).
(٢) الخبر والبيت في الأغاني (٧/ ٢٤٦) في ترجمة أبي زكار الأعمى.

<<  <  ج: ص:  >  >>