للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرشيدُ من تحتِ فراشِهِ سيفًا وأمر بضربِ عُنقِه به، وجعل يتمثَّلُ ببيتٍ قيل في قتل أنسٍ قبلَ ذلك:

تلمَّظَ السيفُ من شوقٍ إلى أنس … فالسيفُ يلحَظُ والأقدارُ تنتظِرُ

فضُربَتْ عُنقُ أنس، فسبَقَ السيفُ الدَّمَ، فقال الرشيد: رحمَ اللَّه عبدَ اللَّه بن مُصعَب. فقال الناس: إنَّ السيفَ كان للزُّبير بنِ العوَّام. ثم شُحنت السجونُ بالبرامكة، واستُلبَتْ أموالُهم كلُّها، وزالتْ عنهمُ النِّعمة. وقد كان الرشيدُ في اليوم الذي قتل جعفرًا في آخرِه هو وإيَّاهُ راكبَيْنِ في الصَّيد في أوَّله، وقد خلا به دون ولاةِ العُهود، وطيَّبَهُ في ذلك بالغالية بيدِه، فلما كان وقتُ المغرب ودَّعَهُ الرشيدُ وضَمَّهُ إليه وقاله: لولا أنَّ الليلةَ ليلةُ خلوتي بالنساء ما فارقتُك، فاذهبْ إلى مَنْزِلك، واشرَبْ واطرَبْ وطِبْ عيشًا، حتى تكونَ على مثلِ حالي، فأكون أنا وأنتَ في اللذَّةِ سواءً. فقال: واللَّه يا أميرَ المؤمنين، لا أشتهي ذلك إلَّا معَك. فقال: لا، انصرِفْ إلى مَنْزلك. فانصرَفَ عنه جعفر. قما هو إلَّا أنْ ذهب من الليلِ بعضُه حتى أوقعَ به من البأسِ والنَّكالِ ما تقدَّم ذكرُه، وكان ذلك ليلةَ السبت، آخرَ ليلةٍ من المحرَّم، وقيل: إنَّها أولُ ليلةٍ من صَفَر في هذه السنة، كان عمرُ جعفرٍ إذْ ذاك سبعًا وثلاثين سنة. ولما جاء الخَبرُ إلى أبيه يحيى بنِ خالد بقتلِه: قال: قتَلَ اللَّه ابنَه. ولما قيل له: قد خَرِب دارُك. قال: خرَّب اللَّه دورَه. ويقال: إنَّ يحيى لما نظر إلى دُوره وقد هُتكتْ ستورُها، واستُبِيحتْ قصورُها، وانتُهب ما فيها قال: هكذا تقومُ الساعة. وقد كتَبَ إليه بعضُ أصحابه يُعزِّيِه فيما جرى له، فكتب إليه جوابَ التعزية: أنا بقضاء اللَّه راضٍ وباختيارِهِ عالِم، ولا يؤاخِذُ اللَّه العبادَ إلَّا بذنوبهم، وما اللَّه بظلَّامٍ للعبيد، وما يغفِرُ اللَّه أكثَرُ، وللَّه الحمد. وقد أكثر الشعراءُ من المراثي في البرامكة، فمن ذلك قولُه الرَّقَاشي، وقيل: إنَّها لأبي نُوَاس:

الآن استرَحْنا واستراحَتْ رِكَابُنَا … وأمسَكَ مَنْ يُجْدي ومَنْ كان يَجْتَدي

فقلْ للمَطايَا قد أمِنْتِ من السُّرَى … وطَيَّ الفيافي فَدْفَدًا بعدَ فَدْفَدِ

وقلْ للمنايا قد ظَفِرْتِ بجعفرٍ … ولن تَظْفَري من بعد بِمُسَوَّدِ

وقلْ للعطايا بعد فضل تعَطَّلي … وقلْ للرزايا كلَّ يومٍ تَجَدَّدي

ودونكِ سيفًا برمكيًا مُهَنَّدًا … أُصيبَ بسيفٍ هاشميٍّ مُهنَدِ (١)

وقال الرَّقَاشيُّ وقد نظرَ إلى جعفرٍ وهو على جذْعه:

أمَا واللَّهِ لولا خوفُ واشٍ … وعينٌ للخليفةِ لا تنامُ

لَطُفْنا حولَ جِذْعِكَ واستلَمْنا … كما للناسِ بالحجَرِ استلامُ

فما أبصرتُ قبلكَ يا بن يَحيى … حُسامًا فَلَّهُ السيفُ الحسامُ


(١) الأبيات والخبر في تاريخ الطبري (٤/ ٦٦٤)، والكامل لابن الأثير (٥/ ٣٣٠)، ووفيات الأعيان (١/ ٣٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>