للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقُولا لها ليس الضَّلالُ أجازَنا … ولكنَّنا جُزْنا لنلقاكُمُ عَمْدا

غدًا يكثُرُ الباكُونَ (١) منَّا ومنكُمُ … وتَزْدادُ داري من ديارِكُمُ بُعْدا (٢)

قال: فغنَّتْهُ. ثم استعجَلَهُ الخدَم، فشَرِبَ رِطْلًا آخر، وقال: غَنَي جُعلتُ فداك:

تكلَّمَ منَّا في الوجوهِ عيوننا … فنحنُ سكوتٌ والهَوىَ يتكلَّمُ

ونَغْضَبُ أحيانًا ونَرْضَى بطَرْفِنا … وذلك فيما بيننا ليس يُعْلَمُ (٣)

قال: فغنَّتْهُ، ثم شرب رطلًا ثالثًا وقال: غنِّي جعلَني اللَّه فداك:

أحسَن ما كنَا تفرُّقُنا … وخاننا الدَّهْرُ وما خُنَّا

فليتَ ذا الدهرَ لنا مرَّةً … عادَ لنا يومًا كما كُنَّا

قال: ثم قام الشابُّ إلى درجةٍ هناك، ثم ألقَى نفسَهُ من أعلاها على أمِّ رأسِهِ فمات. فقال الرشيد: عَجِلَ الفتى، واللَّه لو لم يَعْجَلْ لوهَبْتُها له (٤).

وفضائل الرشيد ومكارِمهُ كثيرةٌ جدًّا، فقد ذكر الأئمةُ من ذلك شيئًا كثيرًا، فذكَرْنا منه أُنموذجًا صالحًا. وقد كان الفُضيل بن عياض يقول: ليس موتُ أحدٍ أعزَّ علينا من موتِ الرشيد، لِمَا أتخوَّفُ بعدَهُ من الحوادث، وإني لأدعو اللَّهَ أن يزيدَ في عمرِهِ من عُمري. قالوا: فلما مات الرشيدُ وظهرَت الفِتَنُ والحوادثُ والاختلافات، وظهر القولُ بِخَلْقِ القرآن، فعرَفْنا ما كان تخوَّفَهُ الفُضيلُ من ذلك. وقد تقدَّمَتْ رؤياه لذلك الكفّ، وتلك التربةِ الحمراء، وقائلٍ يقول: هذه تربةُ أميرِ المؤمنين. فكان موتُهُ بِطُوس.

وقد روَى ابنُ عساكر (٥) أنَّ الرشيدَ رأى في مَنَامِهِ قائلًا يقول:

كأنِّي بِهذا القصرِ قد بادَ أهلُه … . . . . . . . . . . . . .

الشعر إلى آخرهِ. وقد تقدَّم أنَّ ذلك إنما رآه أخوه موسى الهادي، وأبوه محمد المهدي، فاللَّه أعلم (٦).


(١) في (ق): "البادون"، وفي (ح): "الباقون"، والمثبت من (ب) ومختصر تاريخ ابن عساكر.
(٢) البيتان الأول والثاني في ديوان الحماسة (٢/ ١٢٢، ١٢٣)، وهما منسوبان فيه لِوَرد الجَعدي، ولفظه: "أجارنا. . جرنا" بالراء المهملة.
(٣) البيتان للعباس بن الأحنف، وهما في ديوانه ص (٢٧٣).
(٤) الخبر في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (٢٧/ ٣٤ - ٣٦).
(٥) انظر مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (٢٧/ ٣٦، ٣٧).
(٦) انظر ما تقدم ص (٣٧٥ و ٤١٥) من هذا الجزء. والخبر في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (٢٧/ ٣٦، ٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>