للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رواه ابنُ عساكر (١). وروى (٢) أنهم وجدوا عند رأسِهِ رُقعةً مكتوبًا فيها بخطِّهِ:

يا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنوبي كثرةً … فلقد علمتُ بأنَّ عَفْوَكَ أعظَمُ

أدعوكَ رَبِّ كما أمَرْتَ تضرُّعًا … فإذا ردَدْتَ يدي فمنْ ذا يَرْحمُ

إنْ كان لا يرجوكَ إلَّا مُحْسنٌ … فمَنِ الذي يَرْجو المسيءُ المُجْرِمُ

ما لي إليك وسيلةٌ إلَّا الرجا … وجميلُ عَفْوِكَ ثم أنِّي مُسْلِمُ (٣)

وقال يوسف بن الداية: دخلتُ عليه وهو في السِّيَاق، فقلت: كيف تَجِدُك؟ فأطرَقَ مَلِيًّا، ثم رفع رأسه فقال:

دَبَّ فيَّ الفناءُ سُفْلًا وعُلْوًا … وأُراني أموتُ عُضْوًا فعُضْوَا

ليس تأتي من ساعةٍ بِيَ إلَّا … نَقَصَتْني بمرِّها بِيَ جُزْوَا

ذهبَتْ جِدَّتي بِلَذَّةِ عَيْشي … وتذكَّرْتُ طاعةَ اللَّهِ نِضْوَا (٤)

قد أسأنا كُلَّ الإساءةِ فاللَّـ … ـهُمَّ صَفْحًا عنَا وغَفْرًا وعَفْوَا (٥)

ثم ماتَ من ساعتِه. سامَحَنا اللَّه وإياه آمين.

وقد كان نقشُ خاتمِهِ: لا إله إلا اللَّه مُخلِصًا. فأوصَى أنْ يُجعَلَ في فَمِه إذا غَسَّلوه؛ ففعلوا به ذلك. ولما مات لم يجدوا له من المال سوى ثلاثِمئةِ درهم، وثيابِه وأثاثِه. وفد كانتْ وفاتُه في هذه السنةِ ببغداد، ودُفن في مقابرِ الشُّونِيزيّ، في تلِّ اليهود، وله خمسون سنة، وقيل ستون سنة، وقيل تسع وخمسون سنة. وقد رآه بعضُ أصحابِه في المنامِ فقال له: ما فعلَ اللَّه بك؟ فقال: غفَرَ لي بأبياتٍ قلتُها في النَّرْجِس:

تفكَّرْ في نباتِ الأرضِ وانظُرْ … إلى آثارِ ما صَنَعَ المَليكُ

عيونٌ من لُجَيْنٍ شاخصاتٌ … بأبصارٍ هي الذهَبُ السَّبيكُ

على قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شاهداتٌ … بأنَّ اللَّه ليس له شَريكُ (٦)


(١) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (١٣/ ٤٥٨).
(٢) المصدر السابق (١٣/ ٤٦١).
(٣) الأبيات في ديوان أبي نواس ص (٣٠٧). وهي أيضًا مع الخبر في تاريخ ابن عساكر كما أشرنا في الحاشية السابقة.
(٤) النِّضْو بالكسر: البَعير المهزولِ وقيل: هو المهزول من جميعِ الدوابِ وهو أكثر، والجمع أنضاءِ وقد يُستعمل في الإنسان. لسان العرب (نضو).
(٥) الخبر والأبيات في تاريخ ابن عساكر (١٣/ ٤٦٠، ٤٦١). وهي في ديوان أبي نواس ص (٦٩١).
(٦) الخبر والأبيات في تاريخ ابن عساكر (١٣/ ٤٦٥)، ولم نجدها في ديوان أبي نواس.

<<  <  ج: ص:  >  >>