للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال: أهلُ الطاعة في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو بلهوهم، وربَّما استقبلني الفرح في جوف الليل، وربَّما رأيت القلْبَ يضحك ضحكًا (١).

وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: بينا أنا ساجد إذ ذَهب بي النَّوْم (٢)، فإذا أنا بها -يعني: الحوراء- قد ركَضَتْني برجلها، فقالت: حبيبي، أترقدُ عيناك والمَلِكُ يَقْظَان ينظر إلى المتهجّدين في تهجُّدِهم؟ بؤسًا لعين آثرت لَذَّةَ نومةٍ على لَذَّةِ مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ، ولقي المحبون بعضُهم بعضًا، فما هذا الرُّقاد؟! حبيبي وقرَّةَ عيني، أترقدُ عيناك وأنا أُربَّى لك في الخُدور منذ كذا وكذا؟ فوثبْتُ فزِعًا وقد عَرِقْتُ استحياءً من توبيخها إيَّاي، وإنَّ حلاوة منطِقها لفي سمعي وقلبي (٣).

وقال أحمد بن أبي الحواري: دخلت على أبي سليمان فإذا هو يبكي، فقلت: ما لك؟ فقال: زُجِرْتُ البارحةَ في منامي. قلت: ما الذي حلَّ بك (٤)؟ قال: بينا أنا قد غفوت في محرابي إذ وقفْتُ على جاريةٍ تفوق الدنيا حسنًا، وبيدها ورفة، وهي تقول: أتنام يا شيخ؟ فقلت: من غلبثه عينُه نام. فقالت: كلا، إنَّ طالب الجنة لا ينام، فقالت: أتقرأ؟ فأخذت الورقة من يدها، فإذا فيها مكتوب (٥):

لَهَتْ بكَ لَذَّةٌ عنْ حسنِ عيشٍ … معَ الخيراتِ في غُرفِ الجنانِ

تعيشُ مخلّدًا لا موتَ فيها … وتنعمُ في الجنانِ معَ الحسانِ

تيقَّظْ من منامِكَ إنَّ خيرًا … منَ النومِ التهجّد بالقرانِ

وقال أبو سليمان: أما يستحي أحدهم أن يلبَسَ عباءةً بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة دراهم (٦)؟!

وقال أيضًا: لا يجوز لأحدٍ أن يُظهر للناس الزهدَ والشهواتُ في قلبه، فإذا لم يبقَ في قلبه شيءٌ من شهواتِ الدنيا جاز له أن يظهر للناس الزُّهدَ بلبس العَبَاء (٧)، فإنَّها عَلَمٌ من أعلام الزُّهاد، ولو لبس ثوبين أبيضين ليسترَ بها أبصار الناس عنه كان أسلم لزهده (٨).


(١) ابن عساكر (المجلد ٤٠/ ١٠٣).
وبعدها في ط: وقال: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ.
(٢) في أ: الليل.
(٣) ابن عساكر (المجلد ٤٠/ ١٠٤)، وصفة الصفوة (٤/ ٢٢٥).
(٤) في ظا، ب: رأيت، وفي ط: زجرك.
(٥) الخبر والأبيات في ابن عساكر (المجلد ٤٠/ ١٠٤).
(٦) حلية الأولياء (٩/ ٢٦٨)، وابن عساكر (المجلد ٤٠/ ١٠٤).
(٧) "العَبَاء": ضرب من الأكسية، الواحدة عباءة وعباية، وقد تقع على الواحد؛ لأنه جنس. وقد تكرّر في الحديث. النهاية لابن الأثير (٣/ ١٧٥).
(٨) ابن عساكر (المجلد ٤٠/ ١٠٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>