للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فرفعه الآخر إلى نائب (١) المأمون، فأصبح في دار الخلافة ونقابُه على رأسه، والمِلْحَفَةُ (٢) في صدره، ليراه الناسُ، وليعلموا كيفَ أُخِذ. فأمر المأمون بالاحتفاظ به والاحتراسِ عليه مدَّةً، ثم أطلقه ورضي عنه (٣).

هذا وقد صلب جماعة ممن كان سجنهم بسببه، لكنَّهم أرادوا الفَتْكَ بالموكّلين بالسجن، ويهربون منه، فصلَبَ منهم أربعةً.

وقد ذكروا: أنَّ إبراهيم بن المهدي لمَّا أُوقف بين يدي المأمون شرع في تأنيبه، فترقَّق له عمُّه إبراهيمُ كثيرًا، وقال: يا أميرَ المؤمنين! إنْ تعاقبْ فبحقِّك، وإن تعفُ فبفضلِكَ. فقال: بل أعفو يا إبراهيمُ! إنَّ القدرة تذهب بالحفيظة (٤)، والندم توبة، وبينهما عفو اللَّه ﷿، وهو أكبر ما تسأله، فكبَّر إبراهيمُ وسجَدَ شكرًا للَّه ﷿.

وقد امتدح إبراهيمُ بنُ المهدي ابن أخيه المأمون بقصيدة بالَغَ فيها، فلمَّا سمعها المأمونُ، قال: أقولُ كما قال يوسف لإخوته: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: ٩٢].

وذكر الحافظ ابنُ عساكر (٥): أنَّ المأمون لمَّا عفا عنه أَمَرَه أن يغنّيه شيئًا، فقال: إنِّي تركته. فأَمَرَه، فأخَذَ العُودَ في حجره، وقال:

هذا مقام مشرَّدٍ … خربَتْ منازلُهُ ودورُهْ

نمَّتْ عليه عداتُهُ … كذِبًا فعاقَبَهُ أميرُهْ

ثم عاد فقال (٦):

ذهبْتُ مِن الدُّنيا وقد ذهبَتْ منِّي … لَوى الدَّهْرُ بي عنها ووَلَّى بها عَنِّي

فإنْ أبكِ نفسِي أبْكِ نَفسًا عَزِيزةَ … وإنْ أحتقِرْها أحتقِرْها على رَصْنِ (٧)


(١) في ط والطبري: باب المأمون.
(٢) "المِلْحَفة": الملاءة التي تلتحف بها المرأة.
(٣) تاريخ الطبري (٨/ ٦٠٣).
(٤) "الحفيظة": الغضب.
(٥) تاريخ ابن عساكر (٢/ ٢٦٢ أ).
(٦) الأول والثاني في الأغاني (١٠/ ١٣٦)، وأشعار أولاد الخلفاء (ص ٢٢).
(٧) في ط: على ضفن. وفي الأغاني: وأشعار أولاد الخلفاء: وإن احتسِبْها أحتسِبْها على ضَنِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>