للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أبو داود: كانت مجالس (١) أحمدَ مجالسَ الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قطّ.

وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه سئل عن التوكّل، فقال: هو قطعُ الاستشرافِ باليأس من الناس، فقيل: هل من حجَّةِ على هذا؟ قال: نعم! إن إبراهيم لمَّا رُمِيَ (٢) به من المنجنيق عَرَضَ له جبريل، فقال: هل لكَ من حاجة؟ قال: أمَّا إليك فلا (٣)، قال: فَسَلْ من لك إليه الحاجة؛ قال: أحَبُّ الأمْرَيْنِ إليَّ أحبُّهما إليه (٤).

وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفَّار، قال: كنَّا مع أحمد بن حنبل بِسُرَّ مَن رأى، فقلنا: ادعُ اللَّه لنا، فقال: اللهم، إنَّك تعلم أنَّا نعلم أنك لنا على أكثر مما نحبُّ، فاجعلنا على ما تحبُّ دائمًا، ثم سكت. فقلنا: زِدْنا، فقال: اللهم، إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]. اللهم، وفقنا لمرضاتك، اللهم، إنَّا نعوذُ بكَ من الفقر إلا إليك، ونعوذُ بك من الذلِّ إلا لك، اللهم، لا تكثر فنطغَى ولا تقلّ علينا فننسَى، وهَبْ لنا من رحمتك وسَعَةِ رزقك ما يكونُ بلاغًا في دنياك (٥)، وغنًى من فضلك.

قال البيهقي: وفي حكاية أبي الفضل التَّميميّ، عن أحمد: وكان دعاؤه في السجود: اللهم، من كان من هذه الأئمة على غير الحقِّ وهو يظنُ أنَّه على الحقِّ فَرُدَّه إلى الحقِّ؛ ليكون من أهل الحقِّ. وكان يقول: اللهم، إن قبلت من عصاة أمَّةِ محمّدٍ فداءً، فاجعلني فداءً لهم.

وقال صالح بن الإمام أحمد: كان أبي لا يدع أحدًا يستقي له الماء للوضوء، بل كان يلي ذلك بنفسه، فإذا خرج الدَّلْو ملًا (٦)، قال: الحمدُ للَّه. فقلْتُ: يا أبة، ما الفائدةُ في ذلك؟ فقال: يا بنيَّ، أمَا سمعْتَ قولَ اللَّهِ ﷿: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠]. والأخبار عنه في هذا الباب كثيرة جدًا.

وقد صنف أحمد في الزهد كتابًا حافلًا عظيمًا لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحدٌ فيه. والمظنون،


(١) في أ، بك مجالسة أحمد مجالسة، وأثبت ما جاء في ط.
(٢) في ط: رمي به في النار في المنجنيق.
(٣) لقد ذكر هذا المعنى البغوي في تفسير سورة الأنبياء وضعفه، وروي مثله عن كعب الأحبار، وهو من الإسرائيليات، وليس له أصل في السنة بل هو مخالف، لأن الدعاء مشروع، وفيه عبودية للَّه تعالى (ع).
(٤) تاريخ ابن عساكر (الجزء السابع/ ٢٦٧).
(٥) في ط: دنيانا.
(٦) أراد مَلآن فخفَّف.

<<  <  ج: ص:  >  >>