للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل المقطوعُ به: أنَّه يأخذ بما أمكنه من ذلك ، وأكرم مثواه، وجعل جئات الفردوس منقلبه ومأواه.

وقال إسماعيل بن إسحاق السرّاج: قال لي أحمد بن حنبل: هل تستطيع أن تريني الحارث المُحَاسبي إذا جاء منزلك؟ فقلت: نعم! وفرحت بذلك، ثم ذهبت إلى الحارث، فقلت له: إني أحبُّ أن تحضر الليلة أنت وأصحابك. فقال: إنهم كثير فاحضرْ لهم التمر والكُسْب (١). فلما كان بين العشاءين جاؤوا، وكان الإمام أحمد قد سبقهم، فجلس في غرفةٍ (٢)، فلمَّا صلَّوا العشاء لم يصلُّوا بعدها شيئًا، حتَّى جاؤوا فجلسوا بين يدي الحارث سكوتًا (٣) كأنَّما على رؤوسهم الطير، حتى كان قريبًا (٤) من نصف الليل، ثم سأله رجل عن مسألةٍ، فشرع الحارث يتكلم فيما يتعلَّق بالزهد والوعظ، فجعل هذا يبكي، وهذا يئنُّ، وهذا يَزْعَقُ. قال: فصعِدت الغرفة، فإذا الإمام أحمد بن حنبل يبكي، حتَّى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتَّى الصباح. فلمَّا أراد الانصراف قلتُ: كيف رأيْتَ هؤلاء يا أبا عبد اللَّه؟ فقال: ما رأيت أحدًا يتكلَّمُ في الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثلَ هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمعَ بهم.

قال البيهقي: يحتمل أنه كره له صحبتهم؛ لأن الحارث بن أسد، وإن كان زاهدًا، لكنه كان عنده شيء من علم الكلام، وكان أحمد يكره ذلك. أو لعله كره له أن يصحبهم ولا يدرك شأوهم، واللَّه أعلم.

قلت: بل إنَّما كره ذلك لأن في كلام بعض هؤلاء من التقشُّف الذي لم يرد به الشرعُ والتدقيق والتنقير (٥) والمحاسبة البليغة ما لم يأت به أمرٌ، ولهذا لمَّا وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث بن أسد المسقَى بـ "الرعاية"، قال: هذا بِدعة، ثم قال للرجل الذي جاء به: عليك بما كان عليه مالكٌ والثوريُّ والأوزاعيّ والليث بن سعد، وَدَعْ هذا، فإنَّه بِدْعَةٌ.

وقال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد يقول: إن أحببت أن يدومَ اللَّه لك على ما تححب فدُمْ له على ما يحبُّ. كان يقول: الصَّبرُ على الفقر مرتبةٌ لا ينالها إلا الأكابر.

وكان يقول: الفقر أشرفُ من الغنى، فإنَّ الصبر عليه أعظم مرارةً، وانزعاجه أعظمُ حالًا من الشكر (٦).


(١) "الكُسْب": عصارة الدهن، وثُفل بزور القطن والكتان والسمسم بعد عصرها.
(٢) بعدها في ط: بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه.
(٣) بعدها في ط: مطرقى الرؤوس.
(٤) في أ، ب: قريب، وأثبت ما جاء في ظا، ط.
(٥) "التنقير عن الأمر": البحث عنه.
(٦) بعده في ط: وقال: لا أعدل بفضل الفقر شيئًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>