للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وورعه وزهده لطال علينا، ونحن على عجلٍ من أجل الحوادث. وقد ذكرنا ذلك مبسوطًا في أول شرح الصحيح. واللّه هو المستعان.

وقد كان في غاية الحياء والشجاعة والسَّخاء والورع والزهد في الدنيا دارِ الفَنَاء، والرغبة في الآخرة دارِ البقاء. قال: أرجو أن ألقى اللّه وليس أحد يطالبني أنِّي اغتبتُه. فذُكر له "التاريخ" وما ذَكَرَ فيه من جرحٍ وتعديلٍ وغير ذلك، فقال: ليس هذا من هذا، قال النبي : "ائذنوا له ولبئسَ أخو العَشِيرة" (١) ونحن روينا ذلك رواية ولم نقلْهُ من عند أنفسنا.

وقد كان يصلِّي في كُلِّ ليلةٍ ثلاثَ عشرةَ ركعةً، وكان يختمُ في كُلِّ يومٍ من رمضان خَتْمة، وكانت له جدة ومال جيدٌ يُنفِقُ منه سرًّا وجهرًا، ويكثر الصَّدَقة بالليل والنهار سرًا وعلانية.

وكان مستجاب الدعوة، مسدَّد الرمية، شريف النفس، بَعَثَ إليه بعضُ السلاطين ليأتيه حتى يسمَعَ أولادُه عليه، فأرسل إليه: "في بيته يُؤتى الحَكَم" (٢)، يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلمُّوا إليَّ، وأبَى أن يذهَبَ إليهم. وهو (٣) خالد بن أحمد الذّهلي، نائب الظاهريّة ببخارى.

فبقي في نفس الأمير من ذلك، فاتفق أن جاء كتابٌ من محمد بن يحيى الذّهلي من نيسابور بأن البخاري يقول بأنّ لفظَه بالقرآن مخلوق. وكان قد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلامٌ، وصنَّف البخاري في ذلك كتابه "خلْق أفعال العباد"، فأراد الأميرُ أن يصرفَ النَّاسَ عن السَّماع من البخاري، وقد كانوا يعظّمونه جدًّا؛ حين رجع إليهم نثروا على رأسه الذَّهَب والفضة يوم دخل بُخارى عائدًا إلى أهله، وكان له مجلس للإملاء بجامعها، فلم يَقبلوا من الأمير، فأمر عند ذلك بنفيه من البلاد (٤)، فخرج منها، ودعا على خالد بن أحمد، فلم يمضِ شهرٌ حتى أمر ابنُ طاهر بأن ينادَى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه، وسُجن ببغداد حتى مات، ولم يبقَ أحدٌ ساعدَه على ذلك إلا ابتُلي ببلاء شديد (٥).


(١) أخرجه البخاري (١٠/ ٣٧٨، ٣٧٩) في الأدب، باب لم يكن النبي فاحشًا ولا متفحشًا؛ ومسلم (٢٥٩١) في البر والصلة، باب مداراة من يتَّقي فحشه؛ وأبو داود (٤٧٩١)، والترمذي (١٩٩٦)؛ وأحمد (٦/ ٣٨) عن عائشة: أنَّ رجلًا استأذن على النبي ، فقال: الذي له، بش أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول اللّه! قلتَ له الذي قلت،. ثم ألنت القول؟ قال: يا عائشة! إنَّ شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة مَنْ تركه الناس اتقاء شرِّه.
(٢) سير أعلام النبلاء (١٢/ ٤٠٦). وقوله: في بيته يؤتى الحَكَم، أي: الحاكم، وهو مثل، قصته في كتاب الأمثال لابن سلام (٥٤)، والعسكري (٢/ ١٠١)، وأمثال الميداني (٢/ ٧٢)، واللسان (حكم).
(٣) في ط: والسلطان.
(٤) في ب، ظا: البلد.
(٥) تاريخ بغداد (٢/ ٣٣)، تهذيب الكمال (لوحة ١١٧٢)، سير أعلام النبلاء (١٢/ ٤٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>