للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قيل: فهلا يقال: إنه كان حاضرًا في هذه المواطن كلّها ولكن لم يكن أحدٌ يراه؟ فالجواب: أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العمومات بمجرّد التوهُّمات. ثمّ ما الحامل له على هذا الاختفاء، وظهوره أعظم لأجره، وأعلى في مرتبته، وأظهر لمعجزته. ثمّ لو كان باقيًا بعده لكان تبليغه عن رسول الله الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية، وإنكاره لِمَا وقع من الأحاديث المكذوبة، والروايات المقلوبة، والآراء البدعية، والأهواء العصبية، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم، وشهوده جمعهم وجماعاتهم، ونفعه إياهم ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم، وتسديده العلماء والحكام، وتقديره الأدلة والأحكام أفضل ما يقال عنه من كونه في الأمصار، وجَوْبه الفيافي والأقطار. واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم، وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم. وهذا الذي ذكرناه لا يتوقّف أحد فيه بعد التفهيم، والله يهدي من يَشاء إلى صراط مستقيم.

ومن ذلك ما ثبت في (الصحيحين) وغيرهما عن عبد الله بن عُمر، أن رسول الله صلَّى ليلةً العِشاءَ ثم قال: "أرأيْتُم لَيْلَتَكُم هذ فإنَّهُ إلى مِئة سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُو عَلَى وَجْهِ الأرْضِ اليَوْمَ أَحَدٌ" (١). وفي رواية: "عَيْنٌ تَطرفُ". قال ابن عمر: فَوَهَلَ (٢) الناس في مقالة رسول الله هذه، وإنما أراد انخرام قرنه.

قال الإمام أحمد (٣): حدّثنا عبد الرزاق (٤)، أنبأنا مَعمر، عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمةَ أن عبد الله بن عمر قال: صلّى رسول الله ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلّم قام فقال: "أرأيْتُم لَيلتكم هذهِ فإنَّ علَى رأسِ مِئة سَنَةٍ لا يَبْقَى ممن على ظهر الأرض أحدٌ". وأخرجه البخاري (٥)، ومُسلم (٦) من حديث الزهري.

وقال الإمام أحمد (٧): حدّثنا محمد بن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله قبل موته بقليل أو بشهر: "ما مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، أو ما مِنْكُم مِنْ نَفْسٍ اليومَ مَنْفُوسَةٍ يأتي عَلَيها مئة سَنَةٍ وهيَ يَوْمَئذٍ حَيَّة".


(١) أخرجه البخاري: برقم (١١٦)، في العلم، باب السمر في العلم، ومسلم رقم (٢٥٣٧) في فضائل الصحابة عن الزهري، باب قوله : "لا تأتي مئة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم".
(٢) وَهَلَ: غلط، يقال: وهل يهل وَهْلًا، أي: غلط وذهب وهمه إلى غير الصواب. أما وَهِلت بكسر الهاء، فمعناه: فزعت.
(٣) في مسنده (٢/ ٨٨).
(٤) وهو في مصنفه (٢٠٥٣٤).
(٥) البخاري (١١٦) و (٥٦٤).
(٦) مسلم (٢٥٣٧).
(٧) المسند (٣/ ٣٠٥ - ٣٠٦).