للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورواه الترمذي (١)، والنسائي (٢) من حديث حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك. ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ يعني سرير مملكتها وكان مزخرفاً بأنواع الجواهر واللآلئ والذهب والحليَّ الباهر.

ثمّ ذكر كفرهم بالله وعبادتهم الشمس من دون الله وإضلالَ الشيطان لهم وصدّه إياهم عن عبادة الله وحده لا شريك له ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ أي: يعلم السرائر والظواهر من المحسوسات والمعنويات ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ أي: له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات.

فعند ذلك بعث معه سليمان كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله، والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه، ولهذا قال لهم: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ أي لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ أي: واقدموا عليّ سامعين مطيعين بلا معاودة ولا مراودة. فلما جاءها الكتاب مع الطير -ومن ثم اتخذ الناس البطائق، ولكن أين الثريا من الثرى؟! تلك البطاقة كانت مع طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له- فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها وهي في خلوة لها، ثمّ وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها، فجمعت أُمراءها ووزراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها ﴿قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩)﴾. ثم قرأت عليهم عنوانه أولًا ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ ثم قرأته ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾. ثمّ شاورتهم في أمرها وما قد حل بها، وتأدّبت معهم، وخاطبتهم وهم يسمعون ﴿قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ تعني: ما كنت لأبتَّ أمراً إلا وأنتم حاضرون: ﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ يعنون: لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال، فإن أردت منّا ذلك فإنا عليه من القادرين، ﴿و﴾ مع هذا فـ ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ فبذلوا لها الطاعة، وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة، وفوَّضوا إليها في ذلك الأمر لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم، فكان رأيها أتمَّ وأسدَّ من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يُغالَب ولا يُمانَع ولا يُخالَف ولا يُخادَع.

﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ تقول برأيها السديد: إن هذا الملك لو قد غَلَب على هذه المملكة لم يخلص الأمر من بينكم إلا إليَّ، ولم تكن الحدَّة الشديدة


(١) سنن الترمذي رقم (٢٢٦٢) في الفتن، باب (٧٥).
(٢) سنن النسائي (٨/ ٢٢٧).