للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السُّدِّي (١) وغيرُه: المراد بقوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ زَعْمُهُم في عيسى وأمه أنهما إلهان (٢) مع اللّه، يعني كما بيّن تعالى كفرَهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٦ - ١١٨].

يخبر تعالى أنه يسأل عيسى ابنَ مريمَ يوم القيامة على سبيل الإكرام له والتقريع والتوبيخ لعابديه ممن كذَّب عليه وافترى وزعم أنه ابن اللّه، أو أنه الله أو شريكه، تعالى اللّه عما يقولون، فيسأله - وهو يعلم - أنه لم يقعْ منه ما يسأله عنه، ولكنْ لتوبيخ من كذبَ عليه، فيقول له: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ أي: تعاليت (٣) أن يكون معك شريك. ﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ أي ليس هذا يستحقه أحدٌ سواك ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾. وهذا تأدُّبٌ عظيمٌ في الخطاب والجواب ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ (٤) حين أرسلتني إليهم وأنزلت عليَّ الكتاب الذي كان يُتلى عليهم.

ثم فسّر ما قال لهم بقوله: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ أي: خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ أي: رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي، فرحمتني وخلّصتني منهم، وألقيتَ شَبَهي على أحدهم، حتى انتقموا منه، فلما كان ذلك ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

ثمّ قال على وجه التفويض إلى الربّ ﷿ والتبرِّي من أهل النصرانية: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ أي: وهُمْ يستحقون ذلك ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. وهذا التفويض والإسناد إلى المشيئة بالشرط لا يقتضي وقوعَ ذلك، ولهذا قال: ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ولم يقل الغفور الرحيم.

وقد ذكرنا في "التفسير" (٥) ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذَرٍّ أنَّ رسول الله قام بهذه الآية الكريمة ليلةً حتى أصبح: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وقال: "إني سألت ربي


(١) تفسير الطبري (٦/ ٢٠٢ - ٢٠٣).
(٢) في ط: الإلاهان.
(٣) في ب: عن أن.
(٤) زاد في ب: أي ما قلت غير ما أمرتني به.
(٥) تفسير ابن كثير (٢/ ١٢١).