للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صيحةُ القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عينيّ من مخافة القيامة، ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أُمَّاه ما حملك على أن أَذُوقَ كَرْبَ الموت مرّتين، يا أُمَّاه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روحَ اللّهِ وكلمتَهُ، سل ربي أن يردّني إلى الآخرة، وأن يهوِّن عليَّ كرب الموت، فدعا ربَّه، فقبضها إليه واستوت عليها الأرض. فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه (١) غضبًا.

وقدّمْنا في عقيب قصّة نوح (٢) أن بني إسرائيل سألوه أن يحيي لهم سام بن نوح، فدعا الله ﷿ وصلّى لله (٣) فأحياه الله لهم، فحدّثهم عن السفينة وأمرها، ثمّ دعا فعاد ترابًا.

وقد روى السّدي عن أبي صالح، وأبي مالك عن ابن عباس في خبر ذكره، وفيه أن ملكًا من ملوك بني إسرائيل مات وحمل على سريره، فجاء عيسى ، فدعا الله ﷿، فأحياه الله ﷿ فرأى الناس أمرًا هائلًا ومنظرًا عجيبًا، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [المائدة: ١١٠ - ١١١].

يذكّره تعالى بنعمته عليه وإحسانه إليه في خَلْقه إياه من غير أب، بل من أُمّ بلا ذَكَرٍ، وجَعْلِهِ لَه آيةً للناس ودلالة على كمال قدرته تعالى، ثم إرساله بعد هذا كلّه ﴿وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾ في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة، وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون، ولهذا قال: ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وهو جبريل بإلقاء روحه إلى أمه، وقرنه معه في حال رسالته ومدافعته عنه لمن كفر به ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ أي تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي الخط والفهم، نص عليه بعض السلف (٤) ﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾.

وقوله: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ أي تصوّره وتشكّله من الطين على هيئته (٥) عن أمر الله له بذلك ﴿فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾ أي بأمري، يؤكّد تعالى بذكْرِ الإذْن له في ذلك لرفع التوهّم.

وقوله: ﴿وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾ قال بعض السلف: وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لأحد من الحكماء


(١) ليست في ب. والخبر في مختصر تاريخ دمشق (٢٠/ ١٠١ - ١٠٢).
(٢) في الجزء الأول.
(٣) زاد في ب: ركعتين.
(٤) تفسير الطبري (٧/ ٨٣).
(٥) في ب: هيئة الطير.