﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: ١١]. وقد أظهر الله سبب هذه القضية من نور الحق وبرهانه، ما ردَّ به إفك الكاذب وبهتانه، وأنا لا أحب أن يُقتصَّ لي من أحد بسبب كذبه عليّ، أو ظلمه لي وعدوانه، فإني قد حاللت كل مسلم، وأنا أحبُّ الخير لكل مؤمن، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبّه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي، وأما ما تعلق بحقوق الله ورسوله، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم، ولو كان الرجل مشكورًا على سوء عمله لكنت أشكر كلَّ من كان سببًا في هذه القضية لِمَا ترتّب لنا عليها وعلى يديه من خير الدنيا والآخرة، لكنّ الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه، الذي لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم، وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم. وأنتم تعلمون هذا من خلقي، والأمر أزيد مما كان، لكن حقوق الناس بعضهم مع بعض، وحقوق الله عليهم هم فيها تحت حكم الله. وأنتم تعلمون أن الصدِّيق الأكبر في قضية الإفك أنه حلف لا يصل مِسْطَح بن أُثَاثة، لأنه كان من الخائضين في الإفك فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٢٢]. فلما نزلت قال أبو بكر: بلى والله أحبُّ أن يغفر الله لي، ثم رجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه. واعلموا أن الله ﷾ مع ما ذكر من الصفح والإحسان والعفو وأمثال ذلك وأضعافه، فالجهاد لا بدَّ منه، وهو الجهاد على ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة أمر لا بد منه. ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٥٤ - ٥٥]. والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ونزل الشيخ في دار الأوحدي، وقيل: في دار ابن سنقر، وأكبَّ الناس على الاجتماع والقراءة عليه في جميع العلوم ليلا ونهارًا، فكان يعلّم الناس ويفتيهم، ويذكُر اللهَ ويدعو إليه، ويتكلّم في الجوامع بمصر على المنابر بتفسير القرآن، ويوم الجمعة من بعد الصّلاة إلى أذان العصر إلى أن ضاق منه صدور خلق من أعدائه، وانحصروا منه، وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت. وفي العشر الأول من شوّال اجتمع خمسمئة من الصُّوفية وفيهم شيخ شيوخهم كريم الآملي وابن المنبجي واتفقوا على الشكوى على الشيخ تقي الدين إلى السلطان، فطلع منهم خلق إلى القلعة فكانت لهم ضجّة شديدة، فقال السلطان: ما لهؤلاء؟! فقيل له: يشكون على ابن تيمية، فقال: وما يشكون منه؟ فقالوا: إنهم يزعمون أنّه يسبُّ مشايخهم، ويضع من قدرهم عند الناس. واستغاثوا، وجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، ودخلوا على الأمراء، ولم يبقوا ممكنًا. فقال بعض أصحابه له: إنّ الناس قد جمعوا لك جمعًا كثيرًا، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وكان قد تكلم في ابن عربي وبيَّن طريقه، وطريق أتباعه من أهل الحلول والاتحاد.