وذكر جماعة ممّن حضر هذا المجلس أن الناس لما تفرقوا منه، قام الشيخ ومعه جماعة من أصحابه، فجاء إلى موضع في دار العدل، فاستلقى على ظهره، وأخذ حجرًا، فوضعه تحت رأسه فاضطجع قليلًا. ثم جلس قليلًا، فقال له إنسان في الحاضرين: يا سيدي قد أكثر الناس عليك! فقال: إن هم إلا كالذباب، ورفع كفه إلى فيه ونفخ، وقام وقمنا معه حتى خرجنا من دار العدل، فأُتي بحصان فركبه، وتحنك بذؤابته، فلم أر أحدًا أقوى قلبًا منه، ولا أشجع، ولا أشد بأسًا. ولما أكثروا الشكاية فيه، والحطّ عليه، رسم بتسفيره إلى الشام. فخرج للسفر ليلة الخميس ثامن عشر الشهر، ثم ردَّ في يوم الخميس المذكور، وحُبس بسجن الحاكم في حارة الدَّيلم ليلة الجمعة تاسع شوال، ولما دخل الحبس وجد المحابيس في غفلة عظيمة مشتغلين بأنواع من اللعب يلتهون بها عمّا هم فيه كالشّطرنج والنّرد وغير ذلك، من تضييع الصلوات، فأنكر عليهم أشد الإنكار، وأمرهم بملازمة الصلاة، والتوجُّه إلى الله بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء، وعلَّمهم من السُّنَّة ما يحتاجون إليه، ورغَّبهم في أعمال البر وحضهم على ذلك، حتى صار الحبس مما فيه من الاشتغال بالعلم والدين خيرًا من كثير من الزوايا والرُّبط والخوانق والمدارس، حتى صار خلق من المحابيس إذا طلعوا يختارون الإقامة عنده، وبعضهم لا يريد الخروج من الحبس لما حصل له فيه من الخير. وكثر المتردِّدُون إليه حتى كان الحبس يمتلئ منهم، فلما كثر اجتماع الناس به في الحبس ساء ذلك آعداءه وحَصِرت صدورهم، فسألوا نقله إلى الإسكندرية، وأرادوا أن يصرفوا قلوب الناس عنه، وينقطع أثره، ويأبى الله إلّا أن يرفع ذكره ويجمع قلوب الخلق عليه. (١) هو: أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري المالكي الصوفي. توفي سنة (٧٠٩ هـ). ترجمته في الدليل الشافي (١/ ٧٨). (٢) في ط: بشروط.