للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال فيما ثبت عنه في "الصحيحين": "إذَا هَلَك قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وإذَا هَلَك كِسْرى فلَا كِسْرى بعْدَهُ، والَّذي نَفْسِي بِيَدهِ لتُنْفِقُنَّ كنوزهما في سَبِيل اللَّه" (١) وقد وقع ذلك كما أخبر به سواءً بسواءٍ، في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان انزاحت يدُ قيصر ذلك الوقت -واسم قيصر هرَقْل- عن بلاد الشام، والجزيرة، وثَبَت مُلكُه مقصورًا على بلاد الروم فقط، والعرب إنما كانوا يُسَمُّونَ قيصرَ لِمَنْ ملك بلاد الروم، مع الشام والجزيرة، وفي هذا الحديث بشارة عظيمة لأهل الشام، وهو أن يدَ ملك الروم لا تعودُ إليها أبد الآبدين، ودهرَ الداهرين، إلى يوم الدين، وسنُورد هذا الحديث قريبًا بإسناده، ومتنه إن شاء اللَّه تعالى.

وأما كسرى فإنه سُلِبَ عامَّةَ مُلكه في زمن عمر بن الخطاب، ثم استُؤْصِل ما بقي في يده في زمن عثمان بن عفان، ثم قُتل في سنة ثنتين وثلاثين، وللَّه الحمدُ والمنَّة، وقد بسطنا ذلك مُطولًا فيما سلف، وقد دعا عليه رسول اللَّه حين بلغه أنه مَزَّق كتابَ رسول اللَّه بأن يُمَرق ملكهُ كلَّ مُمَزَّق، فوقع الأمر كذلك (٢). وثبت في "الصحيحين" من حديث الأعمش، وجامع بن أبي راشد، عن شقيق بن سلمة، عن حُذَيْفة، قال: كنا جُلُوسًا عند عمر بن الخطاب، فقال: أَيُّكُم يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ في الفِتْنَة؟ قلت: أنا، قال: هَاتِ: إنَّكَ لَجَرِيء، فقلت: ذَكَر فِتْنة الرجل في أهله، وماله، وجاره، وولده، يُكفِّرها الصلاة، والصدقة، والأمرُ بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقال: ليس هذا أعني، إنما أعني التي تَموجُ مَوج البحر، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن بينَك وبَيْنَها بابًا مُغلقًا، فقال: وَيْحكَ! أيُفْتَحُ البابُ أمْ يُكْسَر؟ قلت: بل يكسر، قال: إذًا لا يغلَقُ أبدًا، قلت: أجَلْ، فقلنا لحُذَيفة: أكان عمر يعلم مَن البابُ؟ قال: نعم، إني حَدَّثتهُ حديثًا ليس بالأغاليط، قال: فهِبْنا أن نسأل حذيفة: مَن الباب؟ فقلنا لمسروق: سله، فسأله، فقال: هو عمر (٣)، وهكذا وقع الأمر سواءً بعد مقتل عمر في سنة ثلاث وعشرين، وقعت الفتنُ بين الناس بعد مقتله، وكان ذلك سبب انتشارها بينهم. وأخبر عن عثمان بن عفان أنه من أهل الجنة، على بلوى تُصيبهُ (٤)، فوقع الأمر كذلك، حُصِر في الدار كما بُسطَ ذلك في موضعه، وقتل صابرًا مُحتسبًا شهيدًا وقد ذكرنا عند مقتله ما ورد من الأحاديث بالإنذار بذلك، والإعلام به قبل كَوْنِه؛ فوقع طِبْقَ ذلك سواء بسواء. وذكرنا ما ورد من الأحاديث في يوم الجَمَل وصِفِّين ما ورد من الأحاديث المُؤذِنة بكَوْن ذلك، وما وقع فيها من الفتنة والاختبار، وباللَّه المستعان.


(١) أخرجه البخاري رقم (٣١٢١) ومسلم رقم (٢٩١٩) من حديث جابر بن سمرة.
(٢) أخرجه البخاري رقم (٦٤).
(٣) رواه البخاري رقم (٥٢٥) ومسلم رقم (١٤٤) من حديث الأعمش، ورواه البخاري رقم (١٨٩٥) ومسلم رقم (١٤٤) (٢٧) الذي بعد (٢٨٩٢) من حديث جامع بن أبي راشد به.
(٤) رواه البخاري رقم (٣٦٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>