للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا كلّه مما يدل على أن هذا إنما يكون في آخر الزمان آخرِ الدنيا، حيثُ يكون الأكلُ والشربُ والركوبُ موجودًا والمشترى وغيرُه، وحيثُ تُهْلِكُ المُتخلّفين منهم النارُ، ولو كان هذا بعد نفخة البعث، لم يبق موتٌ، ولا ظَهْرٌ يُشْتَرى، ولا أكلٌ، ولا شُرْبٌ، ولا لُبْس في العَرَصَاتِ، والعجبُ كلُّ العجَبِ أن الحافظ أبا بكر البيهقيّ بعدَ روايته لأكثر هذه الأحاديث، حمَلَ هذا الركوب على أنّه يوم القيامة، وصحّح ذلك، وضعّف ما قلناه، واستدل على ما قاله بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦)[مريم].

وكيف يصحّ ما ادّعاه في تفسير الآية بالحديث، وفيه أنّ: منهم اثنان على بعير، وثلاثةٌ على بعير، وعشرة على بعير، وقد جاء التصريح بأن ذلك من قلة الظهر، هذا لا يلتئم مع هذا، واللَّه أعلم، فإنَّ نَجائِبَ المتقين من الجَنَّةِ يركَبُها المتقون إذا خرجوا من قبورهم إلى العَرَصات، ومن العرصات إلى الجَنّات، على غير هذه الصفة، كما سيأتي تقريرُ ذلك في موضعه.

فأما الحديث الآخر الوارد من طرق أُخَر، عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس وابن مسعود وعائشة، وغيرهم: "إنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إلى اللَّه حُفَاة عُراةً غُرْلًا ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] " (١) فذلك حَشْرٌ غيرُ هذا، ذاك في يوم القيامة بَعْد نَفْخَة البَعْث، يوم يقوم الناسُ من قبورهم حُفَاةً عُراة غُرْلًا، أي غير مُخْتَتَنينَ، وكذلك حَشْرُ الكافِرين إلَى جَهنَّم وِرْدًا، أي عِطَاشًا.

وقوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧)[الإسراء]، فذلك يحصل لهم حين يُؤْمر بهم إلى النار من مقام المَحْشَرِ، كما سيأتي بيان ذلك كلّه في مواضعه، إن شاء اللَّه تعالى.

وقد ذُكِر في حديث الصُّور: أن الأَمْواتَ لا يَشْعُرونُ بشيْءٍ مِمّا يقَعَ من ذلك بسبب نَفْخةِ الفَزَع، وأنّ الذين استثنى اللَّهُ تعالى، إنما هُم الشهداء، لأنّهم أحياءٌ عِند رَبّهم يُرزَقُون، فهم يشعرون بذلك ولَا يفْزَعُون منها، وكذلك لا يصْعَقُون بسبب نَفْخَة الصَّعْق.

وقد اختلف المفسرون في المستثْنَيْنَ منها على أقوال: أحدها هذا كما جاء مُصَرّحًا به فيه، وقيل: بل هم جبريلُ، وميكائيلُ، وإسرافيل، وَمَلَكُ الموت، وقيل: وحَمَلةُ العَرْش أيضًا، وقيل غير ذلك، فاللَّه أعلم.

وقد ذكر في حديث الصُّورِ، أنّه يَطُولُ على أهل الدنيا مُدَّةُ ما بين نفخة الفزع، ونفخة الصعق، وهم يشاهدون تلك الأهوال، والأمور العظام.


(١) رواه البخاري رقم (٦٥٢٦) ومسلم رقم (٢٨٦٠) من حديث ابن عباس. والبخاري (٦٥٢٧) ومسلم (٢٨٥٩) من حديث عائشة.

<<  <  ج: ص:  >  >>