للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي الحديث الآخر: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" (١) وهذا من خصائص الأنبياء أنهم لا يورثون، وما ذاك إلا لأن الدنيا أحقرُ عندهم من أن تكون مخلَّفة عنهم، ولأن توكُّلهم على الله ﷿ في ذراريهم أعظم (٢) وأشد وآكد من أن يحتاجوا معه إلى أن يتركوا لورثتهم من بعدهم ما لا يستأثرون به عن الناس، بل يكون جميع ما تركوه صدقةً لفقراء الناس ومحاويجهم وذوي خلَّتهم. وسنذكر جميع ما يختص بالأنبياء مع خصائص نبينا وعليهم أجمعين في أول كتاب النكاح من كتاب الأحكام الكبير حيث ذكره الأئمةُ من المصنِّفين اقتداءً بالإمام أبي عبد الله الشافعي رحمة الله عليه وعليهم أجمعين.

وقال الإمام أحمد (٣): حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن ابن (٤) عبد ربِّ الكعبة قال: انتهيت إلى عبد الله بن عمرو وهو جالس في ظلّ الكعبة، فسمعته يقول: بينا نحن مع رسول الله في سفر إذ نزل منزلًا فَمِنا من يَضْرب خباءه، ومنّا مَن هو في جَشَرة (٥)، ومنّا من ينتضلُ، إذ نادى مناديه: الصلاة جامعةً، قال: فاجتمعنا. قال: فقام رسول الله فخطبنا فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلّا دلّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وحذَّرهم ما يعلمه شرًا لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبها بلاءٌ شديد وأمور ينكرونها، تجيء فتن يرقق (٦) بعضها بعضًا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثمّ تنكشف. ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه. ثم تنكشف. فمن سرَّه منكم أن يُزَحْزَح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيَّتُه (٧) وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقةَ يدِه وثمرةَ قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عُنق الآخر". قال فأدخلت رأسي من بين الناس فقلت: أُنشدك بالله أنت سمعت هذا من رسول الله ؟ قال: فأشار بيده إلى أذنيه وقال: سمعتْه أذناي ووعاه قلبي. قال: فقلت: هذا ابن عمك -يعني معاوية- يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وأن نقتل أنفسنا، وقد قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: ٢٩] قال: فجمع يديه فوضعهما على جبهته ثمّ نكس هُنيهة، ثمّ رفع رأسه فقال: أطِعْه في طاعة الله، واعصه في معصية الله.


(١) تقدم تخريجه.
(٢) زيادة من ب وط.
(٣) المسند (٢/ ١٦١).
(٤) في ط: أن، وهو خطأ.
(٥) الجَشَرة: قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم، ولا يأوون إلى البيوت. النهاية في غريب الحديث (١/ ٢٧٣). والمناضلة: المراماة بالنشاب.
(٦) كذا في ب، والمسند. وفي أ وط: يريق.
(٧) في ب وط: موتته. وأشار في حاشية أ إلى هذه الرواية.