للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العبدي (١) نصرانيًا، حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها، عالمًا بسِيَرِ الفرس وأقاويلها، بصيرًا بالفلسفة والطب، ظاهرَ الدهاء والأدب، كاملَ الجمال، ذا ثَرْوةٍ ومالٍ، وإنه قدم على النبي وافدًا في رجال من عبد القيس ذوي آراء وأسنان وفصاحة وبيان، وحجج وبرهان، فلما قَدِم على النبي وقف بين يديه، وأشار إليه، وأنشأ يقول: [من الخفيف]

يا نبيَّ الهُدى أتتكَ رِجالٌ … قَطَعتْ فَدْفَدًا وآلًا فآلا (٢)

وطَوتْ نحوكَ الصَّحَاصِحَ تهوى … لا تَعُدُّ الكلالَ فيك كَلالا (٣)

كُلّ يَهْماء قَصَرَ الطرفُ عنها … أَرْقَلتْها قِلاصُنا إرْقالا (٤)

وطوتْها العِتاقُ يَجْمَحُ فيها … بِكُماةٍ كأنْجُمٍ تَتَلالا (٥)

تَبْتَغي دفْعَ بأسِ يومٍ عظيم … هائل أوجعَ القلوبَ وهالا

ومزادًا لمحشر الخلْق طُرًّا … وفراقًا لمن تمادى ضلالا

نحو نورٍ من الإله وبرها … نٍ وَبِرّ ونعمةٍ أن تُنالا

خَصَّكَ الله يا ابن آمنةَ الخـ … ـيرِ بها إذ أتتْ سِجالا سِجالا

فاجْعلِ الحظَّ منكَ يا حُجَّة اللـ … ـه جزيلًا لا حظّ خُلفٍ أحالا

قال: فأدناه النبي وقرّب مجلسه وقال له: يا جارود، لقد تأخّر الموعود بك وبقومك. فقال الجارود: فداك أبي وأمي، أمّا من تأخّر عنك فقد فاته حظه، وتلك أعظم حوبة وأغلظ عقوبة، وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك واتَّبع سواك، وإني الآن على دينٍ قد علمتَ به، قد جئتك وها أنا تاركه لدينك أفذلك مما يُمحِّص الذنوب والمآثم والحوب؟ ويُرْضي الربَّ عن المربوب؟ فقال له رسول الله : "أنا ضَامنٌ لك ذلك، وأخْلِصِ الآن لله بالوحدانية، ودعْ عنك دينَ النصرانية". فقال الجارود: فداك أبي وأمي، مُدَّ يدَك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك محمد عبده ورسوله. قال: فأسلم، وأسلم معه أناس من قومه، فَسُرَّ النبي [بإسلامهم، وأظهر من إكرامهم ما سُرّوا به وابتهجوا به. ثم أقبل عليهم رسولُ الله ] (٦) فقال: "أفيكم من يعرف قُسَّ بن ساعدة الإيادي"؟ فقال الجارود: فداك أبي وأمي كلُّنا نعرفه، وإني من بينهم لعالم بخبره، واقف على أمره: كان قُسٌّ


(١) اختلف في اسم أبيه فقيل: الجارود بن عمرو، وقيل ابن العلاء. استشهد سنة (٢١ هـ). وقيل غير ذلك. تقريب التهذيب (١/ ١٢٤)، والإصابة (١/ ٢١٦ - ٢١٧)، والكامل لابن الأثير (٢/ ٣٦٨).
(٢) الفدفد: الفلاة.
(٣) الصحاصح: ما استوى من الأرض.
(٤) اليهماء: الفلاة لا يُهتدى فيها. وأرقل: أسرع. والقلاص: جمع قلوص، وهي الشديدة من الإبل الباقية على السير.
(٥) يجمح: يسرع. والخبر والأبيات في عيون الأثر (٢/ ٢٨١ - ٢٨٢).
(٦) سقطت من ب بنقلة عين.