للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يا رسولَ الله سِبْطًا (١) من أسباط العرب، عُمّر ستمئة سنة (٢)، تَقَفَّرَ منها خمسة أعمار في البراري والقفار يضِجُّ بالتسبيح على مثال المسيح، لا يقرُّه قَرارٌ، ولا تكنه دار، ولا يستمتع به جار. كان يلبس الأمْساح (٣) ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته، يتحسّى في سياحته بيضَ النعام، ويأنس بالهوام، ويستمتع بالظلام، يُبصِرُ فيعتبر، ويُفَكّر فيختبر، فصار لذلك واحدًا تُضْرَب بحكمته الأمثال (٤)، وتكشف به الأهوال، أدرك رأسَ الحواريين سَمْعان، وهو أول رجل تألّه من العرب ووحّد، وأقرّ وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذّر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت، وسلَّم بالقضا على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكّر في الأقدار وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار، وعرف الآثار، وخطب راكبًا، ووعظ دائبًا، وحذّر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسَّل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه، وبيّن في كتبه، وخوّف الدهر، وحذر الأزْر (٥)، وعظَّم الأمر، وجنَّب الكفر، وشوّق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية. وهو القائل في يوم عكاظ: شرق وغرب، ويتم وحزب (٦)، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأُجَاج (٧) وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وإناث وذكور، وبرار وبحور (٨)، وحَب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وأشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، وشر وإعدام، ورَب وأصنام، لقد ضل الأنام، نشوّ مولود، ووأد (٩) مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسيء، تبًا لأرباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إلهٌ واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، ربّ الآخرة والأولى (١٠). أما بعد: فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد!؟ وأين الآباء والأجداد!؟ وأين العليل والعوَّاد!؟ كل له مَعاد. يقسم قُسٌّ برب العباد، وساطح المِهاد، لتُحْشَرُنَّ على الانفراد،


(١) السِّبط: الأمة، أي الشخص المنفرد بدين.
(٢) وقيل غير ذلك، ففي المعمرين: أنه عاش (٣٨٠) سنةً. وفي الخزانة (٢/ ٩٠): أنه عاش سبعمئة سنة.
(٣) الأمساح: جمع قلة للمِسْح، وهو الكساء من الشعر.
(٤) قال الأعشى:
وأحلم من قس وأجرى من الذي … بذي الفيل من خفّان أصبح حاردا
وقال لبيد:
وأقول من قس، وأمضى إذا مضى من الرمح إذ مسّ النفوسَ نكالُها
(٥) الأزر: القوة، والضعف، ضد. وهذه الجملة والتي تليها ليست في ب.
(٦) الحزب: الطائفة، والجماعة من الناس.
(٧) الأجاج: الملح المر.
(٨) في ب: وأبرار وفجور.
(٩) في ب: وولد مفقود. وقوله: نشو، بتسهيل الهمز أراد: نشوء.
(١٠) زاد في ب: وهو أول من قال.