للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكذا في سياق حديث أمِّ هانئ، فإنَّ الثابت في الصحيحين (١)، من روايةِ شَرِيك بن أبي نَمِر، عن أنس أنَّ الإسراء كان من المسجد من عند الحِجْر، وفي سياقه غَرَابَةٌ أيضًا من وجوه قد تكلَّمنا عليها هناك، ومنها قوله: قبلَ أنْ يُوحَى إليه (٢). والجوابُ أنَّ مجيئهم أولَ مرَّةٍ كان قبل أن يُوحَى إليه، فكانتْ تلك الليلة ولم يكن فيها شيء، ثم جاءه الملائكة ليلةً أخرى ولم يقل في ذلك، وذلك قبل أن يُوحَى إليه بل جاؤوا بعد ما أوحي إليه، فكان الإسراءُ قطعًا بعد الإيحاء، إمَّا بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون، وهو الأظهر؛ وغسل صدره تلك الليلة قبل الإسراء غسلًا ثانيًا - أو ثالثا - على قوله أنه مطلوب إلى الملأ الأعلى والحضرة الإلهية، ثم ركب البُرَاق رِفْعَةً له وتعظيمًا وتكريمًا، فلما جاء بيتَ المقدس ربطه بالحَلْقة التي كانت تربط بها الأنبياء، ثم دخل بيت المقدس، فصلَّى في قبلته تحيَّةَ المسجد.

وأنكر حُذيفة دخولَهُ إلى بيت المقدس وربْطَه الدَّابَّة وصلاته فيه، وهذا غريب؛ والنصُّ المُثْبتُ مقدَّمٌ على النافي.

ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم، أكان قبل عُروجه إلى السماء كما دلَّ عليه ما تقدَّم أو بعد نزوله منها كما دلَّ عليه بعضُ السياقات، وهو أنسبُ كما سنذكره على قولين، فالله أعلم.

وقيل: إنَّ صلاته بالأنبياء كانتْ في السماء، وهكذا تخَيُّرُه بين (٣) الآنية، اللبن والخمر والماء، هل كانت ببيت المقدس كما تقدم أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح؟ والمقصود أنه لما فرغ من أمر بيت المقدس نُصب له المعراج - وهو السُّلَّم - فصعِدَ فيه إلى السماء، ولم يكنِ الصُّعود على البُراق كما قد يتوهَّمُه بعضُ الناس، بل كان البُراق مربوطًا على باب مسجدِ بيتِ المقدس ليرجع عليه إلى مكة. فصعِدَ من سماءً إلى سماءٍ في المِعْرَاج حتى جاوز السابعة، وكلما جاء سماءً تلقَّتْهُ منها مقرَّبوها ومَنْ فيها من أكابر الملائكة والأنبياء. وذكَرَ أعيان من رأى (٤) من المرسلين، كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية، وإدريس في الرابعة (٥)، وموسى في السادسة - على الصحيح - وإبراهيم في السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخلُه كلَّ يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبَّدون فيه صلاةً وطوافًا،


(١) فتح الباري (٣٥٧٠) المناقب باب كان النبي تنام عينه ولا ينام قلبه، وصحيح مسلم (١٦٢) (٢٦٦) الإيمان باب الإسراء برسول الله .
(٢) وهذه العبارة في رواية البخاري المشار إليها في الحاشية السابقة، وقد زادت نسخة ط بعد قوله: وذلك.
(٣) في ط: من.
(٤) في ط: رآه.
(٥) كذا، لم يذكر الثالثة ولا الخامسة، وفي سيوة ابن هشام (١/ ٤٠٦، ٤٠٧) من حديث أبي سعيد الخدري أنه رأى في الثالثة يوسف بن يعقوب، وفي الخامسة هارون بن عمران.