للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهو يرعى على خاله غنمَه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى، فصار مدَّة مقامه عشرين سنة.

فطلبَ يعقوبُ من خاله "لابان" أن يُسرِّحه ليمرَّ إلى أهله. فقال له خاله: إنِّي قد بُورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئتَ. فقال: تعطيني كلّ حَملٍ يُولد من غنمك هذه السنة أبقعَ (١)، وكل حَمْل ملمع أبيض بسواد، وكلّ أملح (٢) ببياض، وكل أجلح (٣) أبيض من المعز. فقال: نعم. فعمد بنوه فأبرزوا من غنم أبيهم ما كانَ على هذه الصفات من التُّيوس، لئلا يُولد شيء من الحملان على هذه الصفات، وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم.

قالوا: فعمد يعقوب إلى قضبان رطبة بيض من لوز ودلب، فكان يُقشَرها بُلْقًا وينصبها في مساقي الغنم من المياه، لينظرَ الغنمُ إليها فتفزعَ وتتحرَّك أولادُها في بطونها، فتصيرُ ألوان حملانها كذلك، وهذا يكونُ من باب خوارق العادات، وينتظمُ في سلْكِ المعجزات، فصار ليعقوبَ أغنامٌ كثيرة ودوابٌّ وعبيد، وتغيَّر له وجه خاله وبنيه، وكأنهم انحصروا منه.

وأوحى اللّه تعالى إلى يعقوبَ أن يرجعَ إلى بلاد أبيه وقومه، ووعدَه بأن يكون معه، فعرضَ ذلك على أهله فأجابُوه مبادرينَ إلى طاعته، فتحمَّلَ بأهله ومالِه، وسرقت "راحيل" أصنام أبيها، فلما جاوزوا وتحيَّزوا عن بلادهم، لحقَهم "لابان" وقومُه، فلما اجتمع "لابانُ" بيعقوبَ عاتبَه في خروجه بغير علمه، وهلَّا أعلمَه فيُخرجهم في فرحٍ ومزاهرَ وطُبولٍ، وحتَى يُودِّعَ بناتِه وأولادهنَّ، ولما أخذوا أصنامَه معهم، ولم يكن عند يعقوبَ علمٌ من أصنامِه، فأنكرَ أن يكونَ أخذوا له أصنامًا، فدخلَ بيوتَ بناتِه وإمائهن يفتش فلم يجد شيئًا، وكانت راحيلُ قد جعلتهنَّ في بَرْدَعة (٤) الحِمْل وهي تحتَها، فلم تقمْ واعتذرتْ بأنَّها طامِثٌ، فلم يقدرْ عليهن، فعند ذلك تواثقُوا على رابية هناكَ، يُقال لها "جلعاد" على أنَّه لا يهين بناته ولا يتزوَّج عليهن، ولا يُجاوز هذه الرابية إلى بلادِ الآخر، لا لابان ولا يعقوب، وعملا طعامًا وأكلَ القومُ معهم وتودَّعَ كلٌّ منهما من الآخر، وتفارقوا راجعينَ إلى بلادهم.

فلما اقتربَ يعقوبُ من أرض "ساعير" تلقَّتْه الملائكةُ يُبشِّرونه بالقدوم، وبعثَ يعقوب البرد إلى أخيه العيص يترفَّق له ويتواضع له، فرجعت البرد وأخبرتْ يعقوبَ بأن العيص قد ركبَ إليك في أربعمئة راجل، فخشيَ يعقوبُ من ذلك ودعا اللّه ﷿ وصلَّى له وتضرَّع إليه وتمسكنَ لديْه، وناشدَه عهدَه ووعدَه الذي وعدَه به، وسأله أن يكفَّ عنه شرَّ أخيه العيص، وأعدَّ لأخيه هديَّة عظيمةً، وهي مئتا شاة،


(١) أبقع: خالط لونه لونٌ آخر.
(٢) أملح: خالط بياضَه سوادٌ.
(٣) أجلح: لا قرنَ له.
(٤) برْدعة: هي ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه، كالسَّرْج للفرس.