وقد روى ابن عساكر عن عامر الشَّعبي: أن عليًّا حين بعث جرير بن عبد اللَّه البَجَلي إلى معاوية قبل وقعة صفِّين -وذلك حين عزم عليٌّ على قصد الشام، وجمع الجيوش لذلك- وكتب معه كتابًا إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد لزمته بيعتُه لأنه قد بايعه المهاجرون والأنصار، فإن لم تبايع استعنتُ باللَّه عليك وقاتلتُك، وقد أكثرت القول في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب اللَّه. . . في كلام طويل، وقد قدَّمنا أكثره. فقرأه معاوية على الناس، وقام جرير فخطب الناس، وأمر في خطبته معاوية بالسمع والطاعة، وحذَّره من المخالفة والمعاندة، ونهاه عن إيقاع الفتنة بين الناس، وأن يضرب بعضهم بعضًا بالسيوف. فقال له معاوية: انتظر حتى آخذ رأي أهل الشام. فلمَّا كان بعد ذلك أمر معاوية مناديًا فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فلمَّا اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال: "الحمدُ للَّه الذي جعلَ الدَّعائم للإسلام أركانا، والشرائع للإيمان بُرْهانا، يتوقَّد مصباحُه بالسنَّة في الأرض المقدَّسة التي جعلها اللَّه محلَّ الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلَّها أهل الشام، ورضيهم لها ورضيها لهم، لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابِّين عن دينه وحُرماته، ثم جعلهم لهذه الأمة نظامًا، وفي أعلام الخير عظامًا، يردع اللَّه بهم الناكثين، ويجمع بهم الألفة بين المؤمنين، واللَّه نستعين على إصلاح ما تشعَّث من أمور المسلمين، وتباعد بينهم بعد القرب والألفة. اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائمًا، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبيلنا، وقد يعلم اللَّه أنّا لا نريد لهم عقابًا، ولا نَهتِك لهم حجابًا، غير أن اللَّه الحميد كسانا من الكرامة ثوبًا لن ننتزعَه طوعًا ما جاوب الصَّدى، وسقط النَّدى، وعرف الهدى. وقد علمنا أنَّ الذي حملهم على خلافنا البغيُ والحسدُ لنا، فاللَّهَ نستعين عليهم. أيُّها الناس قد علمتم أني خليفةُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفةُ أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أُقم رجلًا منكم على خزاية قطّ، وإني وليُّ عثمان وابن عمِّه. قال اللَّه تعالى في كتابه: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] وقد علمتم أنه قُتل مظلومًا، وأنا أحبُّ أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.
فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلبُ بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثَّقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسَهم وأموالَهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني اللَّهُ أرواحَهم قبل ذلك. فلمّا رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى أفزعه ذلك وعجب منه.
وقال معاوية لجرير: إنْ ولّاني على الشام ومصر بايعتُه على ألا يكون لأحد بعده عليَّ بَيْعة. فقال: اكتب إلى عليٍّ بما شئتَ وأنا أكتب معك. فلما بلغ عليًّا الكتاب قال: هذه خديعة، وقد سألني المغيرةُ بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة، فأبيتُ ذلك ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ [الكهف: ٥١]. ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلّا وقد اجتمعت العساكر إلى عليّ.