منهم وأتم رأيًا وأقوى عزمًا وحزمًا، وإنما فعلَ ما فعلَ عن أمر الله له في ذلك، لأنه يترتبُ على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه، فلما عاينوا استخراجَ الصُّواعِ من حمل بنيامين: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ يعنون يوسفَ. قيل: كان قد سرق صنمَ جدِّه أبي أمه فكسرَه. وقيل: كانت عمَّتُه قد علَّقتْ عليه بين ثيابه وهو صغير منطقَةً كانت لإسحاق، ثم استخرجوها من بين ثيابه وهو لا يشعر بما صنعتْ، وإنما أرادتْ أن يكونَ عندها وفي حضانتها لمحبَّتها له. وقيل: كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء. وقيل: غير ذلك فلهذا ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾ وهي كلمته بعدها، وقوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ أجابَهم سرًّا لا جهرًا، حلمًا وكرمًا وصفحًا وعفوًا، فدخلوا معه في الترفُّق والتعطُّف، فقالوا: ﴿قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ أي: إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء. هذا ما لا نفعله ولا نسمحُ به، وإنما نأخذُ من وجدْنا متاعنا عنده.
وعند أهل الكتاب: أن يوسف تعرَّفَ إليهم حينئذ، وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جيِّدًا (١).
يقول تعالى مخبرًا عنهم: إنهم لما استيأسوا من أخذه منه خَلصُوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرُهم وهو روبيل ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ﴾ لقد أخلفتُم عهدَه وفرَّطتم فيه كما فرَّطتم في أخيه يوسف من قبله، فلم يبقَ لي وجهٌ أقابله به ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾ أي لا أزالُ مقيمًا هاهنا ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ في القدوم عليه ﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ بأن يقدِّرني على رد أخي إلى أبي ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ أي: أخبروه بما رأيتُم من الأمر في ظاهر المشاهدة ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ