للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾ أي: فإن هذا الذي أخبرناكَ من أخذهم أخانا لأنَّه سرقَ أمر اشتهرَ بمصر، وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ أي: ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس سجيّةً له ولا خلقه، وإنما سوَّلت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميل.

قال ابن إسحاق وغيره: لما كان التفريط منهم في "بنيامين" مترتبًا على صنيعهم في يوسف قال لهم ما قال. وهذا كما قال بعضُ السلف: إنَّ من جزاء السيئة السيئة بعدَها، ثم قال: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ يعني يوسف وبنيامين وروبيل ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ أي: بحالي، وما أنا فيها من فراق الأحبة ﴿الْحَكِيمُ﴾ فيما يُقدِّرُه ويفعله، وله الحِكمةُ البالغة، والحجَّة القاطعة ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ أي: أعرض عن بنيه ﴿وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ ذكَّره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرَّك ما كان كامنًا، كما قال بعضهم: [من الكامل]

نقِّل فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى … ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوّلِ (١)

وقال آخر: [من الطويل]

لقد لامَني عندَ القُبور على البُكا … رفيقي لتذرافِ الدُّموع السَّوافِكِ (٢)

فقالَ أتبكي كلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ … لقبرٍ ثوى بينَ اللِّوى فالدكادك (٣)

فقلتُ له إن الأسى يبعثُ الأسى … فَدَعْني فهذا كلّهُ قبرُ مالك (٤)

وقوله ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ﴾ أي: من كثرة البكاء ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أي: مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف، فلما رأى بنوه ما يُقاسيه من الوَجْد وألم الفراق ﴿قَالُوا﴾ له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ يقولون لا تزالُ تتذكره حتى ينحلَ جسدُك، وتضعف قوَّتُك، فلو رَفقْتَ بنفسك كان أولى بك ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه، إنما أشكو إلى الله ﷿، وأعلم أن الله سيجعلُ لي مما أنا فيه فَرَجًا ومخْرَجًا، وأعلم أن رؤيا يوسفَ لابُدَّ أن تقعَ، ولابُدَّ أن أسجدَ له أنا وأنتم حسبَ ما رأى، ولهذا قال: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ثم قال لهم مُحرّضًا على تَطلُّبٍ يوسفَ وأخيه، وأن يبحثوا عن أمرهما: ﴿يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ


(١) البيت في العقد الفريد، لابن عبد ربه (٣/ ٤٧٠).
(٢) السَّوافك: المنصبّة، يقال سفَكَه: إذا صبَّه وأراقه.
(٣) اللَّوى: ما التوى من الرمل واعوجَّ، والدَّكادكِ: جمع الدك: وهو ما استوى من الرمل والأرض.
(٤) الأبيات لمتمم بن نُويرة. انظر حماسة أبي تمام (٢/ ٢٩٠).