يُخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه، وقدومهم عليه، ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصَّدقة عليهم بردَّ أخيهم "بنيامين" إليهم ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ﴾ أي: من الجَدْب وضيق الحال وكثرة العِيال ﴿وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾ أي: ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يُتجاوزَ عنها. قيل: كانت دراهم رديئة. وقيل: قليلة. وقيل: حبّ الصنوبر وحبّ البُطْم، ونحو ذلك. وعن ابن عباس: كانت خلق الغرائر (١) والحبال ونحو ذلك ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ قيل: بقبولها. قاله السُّدِّي. وقيل: برد أخينا إلينا. قاله ابن جريج. وقال سفيان بن عُيينة: إنما حرمت الصَّدقةُ على نبيِّنا محمد ﷺ ونزعَ بهذه الآية. رواه ابن جرير.
فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤوا به مما لم يبقَ عندهم سواه من ضعيف المال، تعرَّف إليهم وعطفَ عليهم قائلًا لهم عن أمر ربِّه وربِّهم وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الخال الذي يعرفون ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ وتعجَّبوا كلَّ العجب، وقد تردَّدوا إليه مرارًا عديدة، وهم لا يعرفون أنه هو ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾ يعني أنا يوسف الذي صنعتُم معه ما صنعتُم، وسلفَ من أمرِكم فيه ما فرَّطتم، وقوله: ﴿وَهَذَا أَخِي﴾ تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد، وعملوا في أمرهما من الاحتيال، ولهذا قال ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ أي: بإحسانه إلينا وصدقته علينا وإيوائه لنا، وشدة معاقد عِزِّنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربِّنا، وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا لأبينا، ومحبته الشديدة لنا، وشفقته علينا ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ أي: فضَّلكَ وأعطاكَ ما لم يُعْطِنا ﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ أي: فيما أسدينا إليكَ، وهانحن بين يديك ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ أي: لستُ أُعاقبكُم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادَهم على ذلك فقال ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
(١) "الغرائر": جمع الغرارة، وهي وعاء من الخيش ونحوه، يُوضع فيه القمح ونحوه.