للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن زعم أن الوقفَ على قوله لا تثريبَ عليكم، وابتدأ بقوله ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فقوله ضعيف، والصحيح الأول. ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه، وهو الذي يلي جسدَه، فيضعوه على عينيْ أبيه، فإنه يرجع إليه بصره بعدما كان ذهبَ بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات.

ثم أمرَهم أن يتحمَّلوا بأهلهم أجمعينَ إلى ديار مصرَ، إلى الخير والدَّعة وجمع الشمل بعد الفرقة، على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.

﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يوسف: ٩٤ - ٩٨].

قال عبدُ الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، سمعت ابنَ عبَّاس يقول: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ قال: لما خرجتِ العيرُ، هاجتْ ريحٌ فجاءتْ يعقوبَ بريحِ قميص يوسف ﴿قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ قال: فوجد ريحَه من مسيرة ثمانية أيام (١). وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم: عن أبي سنان، به. وقال الحسنُ البصري وابن جُريج المكي: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخًا، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة.

وقوله ﴿لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ أي: تقولون إنما قلتَ هذا من الفند، وهو الخَرف وكبر السن. قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جُبير وقتادة: تفندون: تسفهون. وقال مجاهد أيضًا والحسن تهرمون (٢).

﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ قال قتادة والسُّدي: قالوا له كلمة غليظة. قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ أي: بمجرد ما جاءَ ألقى القميصَ على وجه يعقوبَ، فرجعَ من فوره بصيرًا بعدما كان ضريرًا، وقال لبنيه عند ذلك ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: أعلمُ أنَّ الله سيجمعُ شَمْلي بيوسفَ، وستقرُّ عيني به، وسيُريني فيه ومنه ما يسرُّني، فعند ذلك ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾. طلبوا إليه أن يستغفرَ لهم الله ﷿ عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه، وما كانوا عزموا عليه. ولما كان من نيِّتهم التوبةُ قبلَ الفعل قيَّضهُم الله للاستغفار عند


(١) أخرجه عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه، كما في الدر المنثور (٤/ ٥٨١).
(٢) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٤/ ٥٨١).