للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إذ بكى على ما سَلَف من خطاياه، وتحسّر على ما خلف من دنياه، واستغفر حين لا ينفعه الاستغفار ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزول البلية.

أحاطتْ بهِ أحزانهُ وهمومهُ … وأبلسَ لمَّا أعجزتهُ المقادرُ

فليسَ لهُ من كربةِ الموتِ فارجٌ … وليسَ لهُ مما يحاذرُ ناصرُ

وقد جشأتْ خوفَ المنيةِ نفسهُ … ترددها منهُ اللها والحناجرُ

هنالك خف عواده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت البرية بالعويل، وقد أيسوا من العليل، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومد عند خروج روحه رجليه [وتخلى عنه الصديق، والصاحب الشفيق].

فكم موجعٍ يبكي عليهِ مفجَّعٌ … ومستنجد صبرًا وما هوَ صابرُ

ومسترجعٍ داعٍ لهُ الله مخلصًا … يعدَّدُ منهُ كلَّ ما هوَ ذاكرُ

وكمْ شامتٍ مستبشر بوفاته … وعما قليلٍ كالذي صارَ صائرُ

فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمّروا لإبرازه، [كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى، ولا الحبيب المبدَّى] (١).

وظلَّ (٢) أحبُّ القومِ كان بقربهِ … يحثُّ على تجهيزهِ ويبادرُ

وشمَّر منْ قدْ أحضروهُ لغَسلهِ … ووجَّه لما فاضَ للقبرِ حافرُ

وكُفِّنَ في ثوبين واجتمعتْ لهُ … مشيِّعة إخوانهُ والعشائرُ

فلو رأيت الأصغر من أولاده، قد غلب الحزن على فؤاده، وغشي (٣) من الجزع عليه، وخضبت الدموع عينيه، وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه واحراباه:

لعاينتَ من قبح المنيةِ منظرًا … يهالُ لمرآهُ ويرتاعُ ناظرُ

أكابرُ أولاد يهيجُ اكتئابهمْ … إذا ما تناساهُ البنونُ الأصاغرُ

وربَّة نسوان عليهِ جوازعٌ … مدامعهم فوقَ الخدودِ غوازرُ

ثم أُخرج من سَعَةِ قصره، إلى ضيق قبره، فلما استقر في اللَّحد، وهُيءَ عليه اللَّبن [احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه، وضاق ذرعًا بما رآه، ثم] (٤) حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه، وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنًا بما كسب وطلب.


(١) ما بين معكوفين زيادة من ط.
(٢) في ط: وحل.
(٣) في ط: ويخشى.
(٤) ما بينهما زيادة من ط.