وقال وهب: أتى رجلٌ من أهلِ زمانهِ إلى مَلِكٍ كان يَفتِنُ الناسَ على أكلِ لحمِ الخِنْزِير، فأعظمَ الناسُ مكانَه، وهالَهُمْ أمرُه، فقال له صاحبُ شُرْطَةِ الملِكِ سِرًّا بينه وبينه: أيها العالم، اذبَحْ جَدْيًا مما يَحلُّ لك أكلُه، ثم ادفَعْهُ إليَّ أصنعه لك على حِدَتِه؛ فإذا دَعَا المَلِكُ بلحم الحِنْزير أمرتُ به فوُضع بين يديك، فتأكلُ منه حلالًا ويَرَى الملِكُ والناسُ أنك إنما أكلتَ لحمَ الخِنْزير. فذبح ذلك العالِمُ جَدْيًا ثم دفعه إلى صاحبِ الشرطة، فصنعه له، وأمر الطبَّاخين إذا أمَرَ المِلكُ بأنْ يُقَدَّمَ إلى هذا العالم لحم الخِنْزير أنْ يضَعوا بين يدَيْهِ لحمَ هذا الجَدْي؛ واجتمع الناسُ لينظروا أمْرَ هذا العالِم فيه، أيأكلُ أم لا؟ وقالوا: إنْ أكَلَ أكَلْنا، وإن امتنعَ امتنعْنَا. فجاء الملك فدعا لهم بلحومِ الخنازير فوُضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالِم لحمُ ذلك الجَدْي الحلال المُذَكَّى، فألهمَ الله ذلك العالم، فأُلقيَ في رُوْعِه وفكرِه فقال: هَبْ أني أكلتُ لحمَ الجدي الذي أعلم حِلَّه أنا، فماذا أصنعُ بِمَن لا يعلم، والناسُ إنما ينتظرونَ أكْلي ليقتدوا بي وهم لا يعلمون إلا أني إنما أكلتُ لحمَ الخِنْزير، فيأكلونَ اقتداءً بي، فأكونُ مِمنْ يحمِلُ أوزارَهم يومَ القيامة؛ لا أفعلُ واللهِ، وإنْ قُتلت وحُرِّقتُ بالنار. وأبَى أن يأكل، فجعلَ صاحبُ الشرطةِ يَغْمزُ إليه ويُومي إليه ويأمرُه بأكلِه، أيْ إنما هو لحمُ الجَدْي؛ فأبَى أن يأكل، ثم أمرَهُ الملكُ أنْ يأكلَ فأبى، فألَحُّوا عليه، فأبى، فأمر الملكُ صاحبَ الشرطةِ بقَتْلِه، فلما ذهبوا بهِ ليقتلُوه قالَ له صاحبُ الشرطة: ما منعكَ أنْ تأكلَ من اللحم الذي ذَكَّيْتَهُ أنتَ ودفعتَه إليّ؟ أظننتَ أني أتيتُكَ بغيرِه وخُنْتُكَ فيما ائتمنتني عليه؟ ما كنتُ لأفعلَ والله. فقال له العالم: قد علمتُ أنه هو ولكنْ خفتُ أنْ يتأسى الناسُ بي، وهم إنما ينتظرونَ أكْلي منه، ولا يعلمون إلَّا أني إنما أكلتُ لحمَ الخِنْزير، وكذلك كل منْ أُريد على أكلِه فيما يأتي من الزمان يقول: قد أكلَهُ فلان، فأكونُ فتنةً لهم. فقُتل ﵀ (أخرجه أبو نعيم في الحلية (٤/ ٥٥، ٥٦).). فينبغي للعالمِ أنْ يحذرَ المعايب، ويجتنبَ المحذورات، فإنَّ زلَّتَهُ وناقِصَتهُ مَنْظورةٌ يَقتدي بها الجاهل. وقال معاذ بن جَبَل: اتقوا زَيْغَة الحكيم (ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (١/ ٤٩٥) ضمن كلام لمعاذ. وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص (٢٥٣)، وبعده: "فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالةِ على لسان الحكيم".). وقال غيرُه: اتقوا زَلَّةَ العالم فإنه إذا زَل زَلَّ بزَلَّتِهِ عالَم كثير (أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (٥٢٠) معزوًّا لعيسى صلوات الله عليه.). ولا ينبغي له أن يستهينَ بالزَّلَّةِ وإنْ صَغُرَتْ، ولا يفعلُ الرُّخَصَ التي اختلفَ فيه العلماء، فإنَّ العالِمَ هو عَصَاةُ كلِّ أعمى من العوام، بها يصولُ على الحق ليَدْحَضهُ ويقول: رأيتُ فلانًا العالم وفلانًا وفلانًا وفلانًا يفعلونَ ويفعلون. وَلْيَجْتَنبِ العوائدَ النفسية، فإنَّهُ قد يفعلُ أشياءَ على حُكم العادة، فيظنُّها الجاهلُ جائزةً أو سنة أو واجبة، كما قيل: سَلِ العالم يَصْدُقْكَ، ولا تقتدِ بفعلِهِ الغريب، ولكن سَلْه عنه يَصْدُقْكَ إنْ كان ذا دِين. وكم أفسدَ النظرُ إلى غالبِ علماءِ زمانِكَ هذا من خَلْق. فما الظنُّ بمخالطتهِمْ ومجالستِهِمْ، ولكنْ ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: ١٧]. وقال محمد بن عبد الملك بن زَنْجَوَيْه: حدّثنا عبد الرزاق عن أبيه، قال: قلت لوهب بن منبه: كنتَ ترى =