للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جعلني اللَّه عليه قُفْلًا، فإنْ شاء أن يفتحَني لأعطياتِكُمْ وقَسْمِ أرزاقِكم فتَحَني، وإذا شاء أن يقفِلَني قفلني فارغبوا إلى اللَّه أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وَهبَكم فيه من فضلِه ما أعلمكم به في كتابهِ إذ يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، أنْ يُوفِّقَني للصواب، ويُسَدِّدَني للرَّشاد، ويُلْهِمَني الرأفةَ بكم، والإحسان إليكم، ويفتحَني لأُعطياتِكم، وقسم أرزاقكم بالعَدْلِ عليكم، فإنه سميعٌ مُجِيب (١).

وقد خطب يومًا فاعترضَهُ رجلٌ وهو يُثني على اللَّهِ ﷿ فقال: يا أمير المؤمنين، اذكُرْ مَنْ أنتَ ذاكرهُ، واتَّقِ اللَّه فيما تأتيهِ وتذَره. فسكتَ المنصورُ حتى انتهى كلامُ الرجل، فقال: أعوذُ باللَّه أنْ أكونَ مِمَّنْ قال اللَّه ﷿ فيه ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ [البقرة: ٢٠٦] أو أنْ أكونَ جبَّارًا عَصِيًّا، أيها الناس، إنَّ الموعظةَ علينا نزلَتْ، ومن عندِنا نبتَتْ. ثم قال للرجل: ما أظنُّكَ في مقالتكَ هذه تريدُ وجهَ اللَّه، وإنما أردتَ أنْ يُقالَ عنك: وَعَظَ أميرَ المؤمنين. أيُّها الناس، لا يغرَّنَّكم هذا، فتفعلوا كفعلِه. ثم أمَرَ به فاحتفِظَ به وعاد إلى خُطبتِهِ فأكملَها، ثم قال لِمَنْ هو عندَه: اعرِضْ عليه الدنيا، فإنْ قبِلَها فأعلِمْني، وإن رَدَّها فأعلِمني. فما زال الرجلُ الذي عنده حتى أخذَ المالَ ومالَ إلى الدنيا، فولَّاهُ الحِسْبَةَ والمظالم، وأدخلَهُ على الخليفة في بِزَّةٍ حسنَة، وثيابٍ وشارةٍ وهيئةٍ دُنيويَّة، فقال له الخليفة: ويحك! لو كنتَ مُحِقًّا مُريدًا وجهَ اللَّهِ بما قلتَ على رؤوس الناس لَمَا قَبِلْتَ شيئًا مِمّا أرى، ولكنْ أردتَ أنْ يُقالَ عنك: إنَّكَ وعظتَ أميرَ المؤمنين، وخرجتَ عليه. ثم أمَرَ بِهِ فضُرِبَت عُنقُه.

وقد قال المنصور لابنه الْمَهْدي: إنَّ الخليفةَ لا يُصِلحُه إلَّا التقوى، والسلطانُ لا يُصِلحهُ إلَّا الطاعة، والرعيَّةُ لأنَّلِحُها إلَّا العَدْل، وأولى الناسِ بالعَفْو أقدَرُهم على العُقوبة، وأنقَصُ الناسِ عقلًا مَنْ ظَلَمَ مَنْ دونَه. وقال أيضًا: يا بُني، استدِمِ النعمةَ بالشُّكر، والقُدرةَ بالعَفْو، والطاعةَ بالتأليف، والنصرَ بالتواضُعِ والرحمةِ للناس، ولا تنس نصيبَكَ من الدنيا، ونصيبَكَ من رحمةِ اللَّه.

وحضَرَ عندَهُ مباركُ بن فَضَالةَ يومًا وقد أمَرَ برجل أنْ يُضرَبَ عُنقُه، وأحضرَ النِّطْعُ والسيف، فقال له مبارك: سمعتُ الحسين يقول: قال رسول اللَّه : "إذا كان يومُ القيامةِ نادَى منادٍ: لِيَقُمْ مَنْ كان أجرُهُ على اللَّه. فلا يقوم إلَّا مَنْ عَفَا". فأمَرَ بالعَفْوِ عن ذلك الرجل. ثم أخَذَ يُعَدِّدُ على جُلسائه عظيمَ جرائمِ ذلك الرجل، وما صنَعَه.

وقال الأصمعي: أُتي المنصورُ برجل ليعاقِبَه، فقال: يا أمير المؤمنين، الانتقامُ عَدْل، والعَفْوُ فَضْل، ونُعِيذُ أميرَ المؤمنين باللَّه أنْ يَرْضَى لنفسِهِ بأوْكَسِ النَّصِيبَيْن، وأدْنَى القِسْمَيْن، دون أرفعِ الدرجتَيْن. قال: فعَفَا عنه.


(١) تاريخ ابن عساكر (٣٢/ ٣١٠، ٣١١).

<<  <  ج: ص:  >  >>