للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الأصمعي: قال المنصورُ لرجلٍ من أهلِ الشام: احْمَدِ اللَّهَ يا أعرابي الذي دفع عنكم الطاعونَ بولايتِنا. فقال: إنَّ اللَّه لا يَجْمَعُ علينا حَشَفًا وسُوءَ كَيْل (١)؛ وِلايتَكم والطاعون.

والحكاياتُ في ذكرِ حِلْمِهِ وعفوِهِ كثيرةٌ جدًا. ودخل بعضُ الزُّهَّاد إلى المنصور فقال: إنَّ اللَّهَ أعطاكَ الدنيا بأسرِها، فاشترِ نفسَكَ ببعضِها، واذكُرْ ليلة تبيتُ في القبر لم تَبِتْ قبلَها، ليلةً تَمْخَضُ عن يومٍ لا ليلةَ بعدَه. قال: فأفحَمَ المنصورَ قولُه، وأمَرَ له بمال، فقال: لو احتجتُ إلى مالك لما وعظتُك.

ودخل عمرو بن عُبيد القدَرِيُّ على المنصور، فأكرَمَهُ وعظَّمَهُ وقرَّبَه، وسأله عن أهلِهِ وعِيَالِه، ثم قال له: عِظْنِي. فقرأ عليه سورةَ الفَجْر ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: ١٤]. فبكى المنصورُ بُكاء شديدًا، حتى كأنَّهُ لم يسمَعْ بِهذه الآياتِ من قبل، ثم قال له: زِدْنِي. فقال: إن اللَّه قد أعطاكَ الدنيا بأسرِها فاشترِ نفسَكَ ببعضِها. وإنَّ هذا الأمرَ كان لِمَنْ قبلَكَ ثم صار إليك، ثم هو صائرٌ لِمَنْ بعدَك، واذكُرْ ليلةً تُسْفِرُ عن يومِ القيامة. فبكى المنصورُ أشدَّ من بُكائه الأول، حتى اختلفَت أجفانُه (٢)؛ فقال له سليمان بن مجالد: رِفْقًا بأميرِ المؤمنين. فقال عمرو: وماذا على أميرِ المؤمنين أنْ يبكيَ من خشيةِ اللَّه ﷿؟! ثم أمر له المنصور بعشرةِ آلاف درهم، فقال: لا حاجةَ لي فيها. فقال المنصور: واللَّه لتأخذَنَها. فقال: واللَّهِ لا أخَذْتُها. فقال له المهدي وهو جالسٌ في سوادِه وسيفِه إلى جانبِ أبيه: أيحلفُ أميرُ المؤمنين وتحِلفُ أنت؟ فالتفت إلى المنصور فقال: ومَنْ هذا؟ فقال: هذا ابني محمد الْمَهْدِي، وليُّ العَهْدِ من بعدي. فقال عمرو إنَّك سَمَّيتَهُ اسمًا لم يستحقَّه بعملِهِ هذا، وألبستَهُ لَبُوسًا ما هو لَبُوسُ الأبرار، ولقد مهدتَ له أمرًا أمتَعُ ما يكونُ به أشغَلُ ما يكونُ عنه. ثم التفتَ إلى المهديِّ فقال: يا ابنَ أخي، إذا حلَفَ أبوكَ وحَلَفَ عَمُّك فلأَنْ يَحْنَثَ أبوكَ أيْسَرُ من أن يَحنث عمُّك، لأنَّ أباك أقدَرُ على الكفَّارَةِ من عمِّك. ثم قال المنصور: يا أبا عثمان هل مِنْ حاجة؟ قال: نعم. قال: وما هي؟ قال: لا تبعَثْ إليَّ حتى آتِيكَ، ولا تعطِني حتى أسألَك. فقال المنصور: إذًا واللَّهِ لا نلتقي. فقال عمرو: عن حاجتي سألتَني. فودَّعَهُ وانصرف. فلمّا وَلَّى أمَدَّهُ بصَرَهُ وهو يقول:


(١) قال أبو عبيد: من أمثالهم: أحَشَفًا وسُوءَ كَيْل! قال أبو بكر: يُقال: كِلْتُ الشيءَ أَكِيلُهُ كَيْلًا، وأوفاني كِيلَة حَسَنة. ومن أمثالهم أحشَفًا وسوءَ كِيْلَة! هكذا أتى المثل كِيْلة لا كَيْل. فصل المقال في شرح كتاب الأمثال ص (٣٧٤). وفي مجمع الأمثال (١/ ٢٠٧): الكِيلَةُ فِعْلَة من الكَيْل، وهي تدلُّ على الهيئة والحالة، نحو الرُّكْبة والجِلْسة، والحَشَفُ أردَأ التمر، أيْ أتجمعُ حشَفًا وسُوءَ كَيْل؟ يُضرَبُ لِمَنْ يَجْمَعُ بين خصلتَيْنِ مكروهتين. وفي جمهرة الأمثال (١/ ١٠١) ونصبوا حَشَفًا بفعل مضمر يريدون: أتجمع حشفًا؟ وعطفوا الكِيلَةَ عليه.
(٢) كذا في (ق) وفي (ب): "اختلف جنباه"، وفي (ح): "احتلف جفناه"، ولعل الصواب "احتفلت أجفانه"، بالحاء المهملة، أي امتلأت بالدموع.

<<  <  ج: ص:  >  >>