فأحبَبْناها، وزَهَّدَنا فيها فآثَرْنا ورَغِبْنا في طَلبِها؛ ووعَدَكم خرابَ الدُّنيا فحصَّنْتُموها، ونَهاكم عن طلَبِها فطلبتُموها، وأنذرَكُمُ الكُنُوز فكنَزْتُموها، دَعَتْكُمْ إلى هذه الغَرَّارةِ دواعيها فأجبتُمْ مُسْرِعينَ مُناديِها، خَدَعتْكُمْ بغُرورها ومَنَّتْكُمْ فانقَدْتُمْ خاضعين لأمانيها؛ تتمرَّغُونَ في زَهَراتِها وزَخارِفها وتتَنَعَّمون في لذَّاتها، وتتقلبَّون في شهَواتها، وتتلوَّثونَ بتَبِعَاتِها، تَنْبشُونَ بمَخالِبِ الحِرْصِ عن خزائنِها، وتحفِرونَ بمعَاوِلِ الطمَعِ في معادنِها.
وشكى إليه رجلٌ كثرةَ عِيَالِهِ فقال: ابعَثْ إليَّ منهم منْ لا رِزْقُهُ على اللَّه. فسكتَ الرجل. وقال: ومررتُ في بعضِ جبال، فإذا حجرٌ مكتوب عليهِ بالعربية:
كُلُّ حي وإنْ بَقِي … فمِنَ العَيْشِ يَسْتَقِي
فاعمَلِ اليومَ واجتهدْ … واحْذَرِ الموتَ يا شَقي
قال: فبينما أنا واقفٌ أقرأُ وأبْكي، وإذا برجل أشعَرَ أغْبَر، عليه مِدْرَعةٌ من شَعر، فسَلَّمَ وقال: ممَّ تبكي؟ فقلت: من هذا. فأخَذَ بيدي ومَضَى غيرَ بعيد، فإذا بصخرةٍ عظيمةٍ مثلِ الْمحْراب، فقال: اقرَأْ وابْكِ ولا تقصِّرْ. وقام هو يُصلِّي، فإذا في أعلاهُ نَقْشٌ بَيِّنٌ عَرَبي:
لا تَبْغِيَنْ جاهًا وجاهُكَ ساقِطٌ … عندَ المليكِ وكُنْ لجاهِكَ مُصْلحا
وفي الجانب الآخر نقشٌ بَيِّنٌ عرَبي:
منْ لم يَثِقْ بالقضاءِ والقَدَرِ … لاقَى هُمومًا كثيرةَ الضَّرَرِ
وفي الجانب الأيْسَرِ نَقْشٌ بَيِّنٌ عربي:
ما أزْيَنَ التُّقَى، وما أقبح الخنا، وكلٌّ مأخوذٌ بما جَنا، وعند اللَّه الجزا.
وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراعٍ أو أكثر:
إنَّما الفَوْزُ والغِنَى … في تُقَى اللَّهِ والعَمَلْ
قال: فلمَّا فرَغْتُ من القراءة التفَتُّ، فإذا ليس الرجلُ هناك، فما أدري، أنصرفَ أمْ حُجِب عني؟.
وقال: أثقل الأعمال في الميزان أثقَلُها على الأبدان، ومنْ وَفَى العمل وُفِّي له الأجر؛ ومنْ لم يعمَلْ رَحَلَ من الدنيا إلى الآخرةِ بلا قليلٍ ولا كثير.
وقال: كُلُّ سلطانٍ لا يكونُ عادلًا فهو واللصُّ بمَنْزلةٍ واحدة؛ وكلُّ عالِمٍ لا يكونُ وَرِعًا فهو والذئبُ بمَنْزلةٍ واحدة؛ وكلُّ منْ خدَم سوى اللَّه فهو والكلبُ بمَنْزلةٍ واحدة.
وقال: ما ينبغي لمَنْ ذَلَّ للَّهِ في طاعتِه، أنْ يَذِلَّ لغيرِ اللَّه في مَجَاعَتِه؛ فكيف بمنْ هو يتقلَّبُ في نِعَمِ اللَّه وكِفَايته.