للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لا والذي اصطفى موسى على البشر، فقال رسول الله: "لا تخيِّروني مِن بين الأنبياءِ".

وفى "الصحيحين" (١) من طريق الزُّهْرى، عن أبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ، بنحوه وفيه: "لا تُخَيِّروني عَلَى مُوسى" وذكر تمامه. وهذا من باب الهضم والتواضع، أو نهي عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية، أو ليس هذا إليكم، بل اللّهُ هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وليس يُنالُ هذا بمجرد الرأي، بل بالتوقيف. ومن قال: إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل، ثم نُسخ باطّلاعه على أفضليته عليهم كلّهم، ففي قوله نظر؛ لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة، وما هاجر أبو هريرهّ إلَّا عام حُنَين متأخِّرًا، فيبعد أنّه لم يعلم بهذا إلّا بعد هذا. والله أعلم.

ولا شك أنّه صلوات اللّه وسلامه عليه أفضل البشر، بل الخليقة. قال اللّه تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] وما كملوا إلا بشرف نبيّهم. وثبت بالتواتر عنه صلوات اللّه وسلامه عليه أنه قال: "أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْر" (٢)، ثمّ ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبِطُه به الأوّلون والآخرون الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون، حتى أولو العزم الأكملون نوحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى ين مريم.

وقوله : "فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيْقُ فَأَجِدُ مُوسَى باطِشًا بِقائِمَةِ العَرْشِ" أي: آخذًا بِها "فلا أدْرِي أَفَاقَ قَبْلي أَمْ جُوْزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّوْرِ" دليلٌ على أنّ هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عَرَصَات القيامة حين يتجلّى الربُّ لِفَضْل القضاء بيت عباده، فيُصْعَقون من شدّة الهيبة والعَظَمةِ والجلال فيكون أوَّلَهم إفاقةً محمدٌ خاتم الأنبياء ومصطفى ربِّ الأرض والسماء على سائر الأنبياء، فيجد موسى باطشًا بقائمة العرش، قال الصّادق المصدوق: "لا أدْري أَصعق فأفاقَ قَبْلي" أي: كانت صعقته خفيفة، لأنّه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق، أو جوزى بصعقة الطور، يعني فلم يصعق بالكليّة، وهذا فيه شرفٌ كبيرٌ لموسى من هذه الحيثية، ولا يلزم تفضيله بها مطلقًا من كلِّ وجه. ولهذا نَبَّه رسول الله على شرفه وفضيلته بهذه الصّفة، لأن المُسْلِم لمّا ضرب وجه اليهودي حين قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، قد يحصل في نفوس بعض المشاهدين لذلك هضمٌ بجناب موسى فبيّن النبي فضيلته وشرفه.


(١) في البخاري: برقم (٢٤١١) في أول الخصومات. ومسلمًا (٢٣٧٣) في الفضائل، باب من فضائل موسى .
(٢) اللفظ للترمذي. وهو قطعة من حديث فيه من طريق أبي سعيد الخدري، رقم (٣١٤٨) في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل.
وأخرجه البخاري: برقم (٣٣٤٠) في الأنبياء، باب قوله ﷿ ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ ومسلم (١٩٤) في الايمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. والترمذي (٢٤٣٤) في صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة، من طريق أبي هريرة.