للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اشتراها في آخر عمره، فضمَّها إليه، فبكت الجارية وقالت: قتلْتَنِي يا أميرَ المؤمنين بسفرك! ثم أنشأتْ تقول (١):

سأدعو دَعْوَةَ المضطر ربًّا … يُثيبُ على الدُّعاءَ ويستجيبُ

لعلَّ اللَّهَ أن يكفيكَ حَرْبا … ويَجْمَعَنا كما تهوى القُلوبُ

فضَّمها إليه وأنشا يقول: متمثِّلًا (٢):

فيا حُسْنَها إذ يغسِل الدَّمْعُ كُحْلَها … وإذ هي تَذْري الدمعَ منها الأناملُ

صبيحةَ قالت في العتابِ قتلْتَني … وقتلي بما قالتْ هناكَ تحاوِلُ

ثم أمر الخادم مسرورًا بالإحسان إليها، والاحتفاظ عليها حتَّى يرجعَ، ثم قال: نحنُ كما قال الأخطلُ (٣):

قومٌ إذا حارَبوا شَدُّوا مآزِرَهم … دُونَ النساءِ ولو باتَتْ بأطهارِ

ثم ودَّعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه، ومات المأمون أيضًا، فلمَّا جاء نعيُه إليها تنفَّست الصُّعَداء وحضرتها الوفاة، وأنشأت تقول وهي (٤) في السِّياق (٥):

إنَّ الزَّمانَ سقانا مِنْ مَرارَتِهِ … بعدَ الحلاوةِ أنفاسًا فأروانا

أبدَى لنا تارةً منه فأضحكنا … ثمَّ انثنى تارةً أُخرى فأبْكانا

إنَّا إلى اللَّه فيما لا يزالُ لنا … من القضاءِ ومن تلوينِ ديانا

دنيا نراها تُرينا مِنْ تصرُّفها … ما لا يدومُ مصافاةً وأحزانا

ونحنُ فيها كأنَّا لا يُزايلنا … للعيشِ أحياؤنا (٦) يبكونَ موتانا

كانت وفاة المأمون بطَرَسُوس في يوم الخميس وقتَ الظهر، وقيل: بعد العصر، لثلاث عشرة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومئتين، وله نحو من ثمان وأربعين سنة. وكانت مدَّة خلافته (٧) عشرين سنة وأشهرًا، وصلَّى عليه أخوه المعتصم وهو وليُّ العهد من بعده، ودُفن بطَرَسُوس في دار خاقان


(١) ابن عساكر (الجزء ٣٩/ ٢٨٣)، وشذرات الذهب (٢/ ٣٩).
(٢) المصدر السابق.
(٣) ديوانه (١٢٠)، وابن عساكر (الجزء ٣٩/ ٢٨٤).
(٤) هي في السِّياق: أي في النَّزْع. و"السِّياق": نزع الروح.
(٥) ابن عساكر (الجزء ٣٩/ ٢٨٤).
(٦) في أ، ط: أحيا وما: وأثبت ما جاء في ب وابن عساكر.
(٧) في ابن عساكر: وكانت ولايته التي استقامت له عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يومًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>