للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

له سبب أذاني في هذه الساعة، فغضب غضبًا شديدًا، وأمر بإحضار ذلك الرجل والمرأة التي في منزله، فأحضرا سريعًا، فبعث المرأة إلى زوجها مع ثقة من جهته، وأمره أن يأمر زوجها بالعفو عنها، والصفح والإحسان إليه؛ فإنها مكرهة ومعذورة. ثم أقبل على ذلك الشاب، فقال: ما رزقُك؟ وكم لك من المال؟ وكم عندك من الجواري والزوجات؟ فذكر له شيئًا كثيرًا. فقال له: ويحك! ما كفاك ما أنعم اللّه به عليك حتى انتهكت حرمة اللّه، وتجرأت على السلطان، وتعدَّيْتَ حدود اللّه، وما كفاك ذلك حتى عمدت إلى رجلٍ أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته؟ فلم يكن له جواب. فأمر به فجعل في قيدٍ، وفي عنقه غِلّ، وأدخل في جُوالق (١)، وضُرب ضربًا شديدًا حتى خَفَتَ صوته، ثم ألقاه في دجلة، وأمر بدرًا صاحبَ الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال بغير حلّها، ثم قال لذلك الرجل الصالح: كلَّما شاهدت منكرًا صغيرًا كان أو كبيرًا ولو على هذا، وأشار إلى صاحب الشرطة، فأعلمني به؛ فإن اتفق اجتماعك بي، وإلا فعلامة ما بيني وبينك أن تؤذن في مثل وقت أذانك هذا.

قال: فبهذا السبب لا آمر أحدًا من هؤلاء الدولة بشيء من الخير أو أنهى عن الشر، إِلَّا بادر إلى امتثاله وقبوله؛ خوفًا من المعتمد، وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك السَّاعة إلى الآن.

وذكر الوزير عُبَيد اللّه بن سليمان بن وَهْب، قال: كنتُ يومًا عند المعتضد وخادم واقف على رأسه يذبُّ عنه بمذبَّة في يده، إذ حرَّكها فجاءت في قَلَنْسُوة الخليفة، فسقطت، فأعظمتُ ذلك جدًّا، وخفت من هول ما وقع، ولم يكترث الخليفة بذلك، بل أخذ قَلَنْسُوَته فلبسها، ثم قال لبعض الخدم: مُرْ هذا فليذهب لراحته؛ فإنَّه قد نعس، وزيدوا في عدَّة من يذبُّ بالنوبة (٢).

قال الوزير: فأخذت في الشكر للخليفة على حلمه، فقال: إنَّ هذا البائس لم يتعمَّدْ هذا، وإنَّما نعس، وليس العقاب والمعاتبة إِلَّا على المتعمِّد لا على المخطئ والسَّاهي.

وقال خفيف السَّمَرْقَنْدي الحاجب: لمَّا جاء الخبر إلى المعتضد بموت وزيره عُبَيد اللّه بن سليمان وتحقق ذلك، خَرَّ ساجدًا طويلًا، فقيل له: يا أميرَ المؤمنين! لقد كان يخدمك وينصحك (٣)، فقال: إنَّما سجدت شكرًا للّه أني لم أعزله ولم أؤذه. ثم استشار الحاضرين فيمن يستوزره من بعده، وذكر هو رجلين، أحدهما: جرادة، وكان حازم الرأي قويًا، والآخر: أحمد بن محمد بن الفرات، فعدل به بدر صاحب الشرطة عنهما، وأشار عليه بالقاسم بن عبيد اللّه، فسفَّه رأيه في ذلك، فألحَّ عليه، فولاه


(١) "الجُوالِق": وعاء من الأوعية، معروف، معرّب.
(٢) في آ: بالمذَّبة.
(٣) في ب، ظا: لقد كان تكفل بخدمتك وبنصحك. وفي ط: لقد كان عبيد الله يخدمك وينصح لك.

<<  <  ج: ص:  >  >>