للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الذي لا يمكن صدوره إلّا عَمَّنْ أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقًا له، أسلموا سراعًا ولم يتلعثموا (١).

وهكذا عيسى ابن مريم بُعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأُرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنى لحكيم إبراء الأكْمَه الذي هو أسوأ حالًا من الأعمى والأبرص والمجذوم ومن به مرضٌ مزمن؟! وكيف يتوصل أحدٌ من الخلق إلى أنْ يقيم الميت من قبره؟! هذا مما يعلم كلُّ أحد أنه معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله.

وهكذا محمد وعليهم أجمعين بُعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢]، فلفظه معجز تحدّى به الإنس والجن أن ياتوا بمثله (٢)، أو بعشر سور من مثله (٣)، أو بسور (٤)، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال (فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا) وما ذاك إلا لأنه كلام الخالق ﷿، والله تعالى لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

والمقصود أن عيسى لما أقام عليهم الحجج والبراهين استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فانتدب له من بينهم طائفة صالحة، فكانوا له أنصارًا وأعوانًا قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وذلك حين هَمَ به بنو إسرائيل ووشَوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، فعزموا على قتله وصلبه، فأنفذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم، وألقى شبهه على أحد أصحابه، فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى، وهم في ذلك غالطون وللحق مكابرون، وسَلَّم لهم كثيرٌ من النصارى ما ادّعوه، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون. قال تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.

وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ إلى أن قال بعد ذلك: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي


(١) التلعثم: الانتظار.
(٢) قال الله تعالى في سورة الإسراء (٨٨): ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.
(٣) قال ﷿ في سورة هود (١٣): ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
(٤) قال في سورة البقرة (٢٣ - ٢٤): ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.